وهي دعوة للنقاش !!! كن أول من يقيّم
وتتصاعد (ثمار) العقلانية الثقافية لتصل الذروة في ما يقوله ابن خلدون: (وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه، فامنهم السلطان "تمر" وحضروا عنده وخرب القلعة وطمس معالمها وصادر اهل البلد على قناطير من الاموال استولى عليها بعد ان اخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك من الاموال والظهر والخيام. ثم اطلق ايدي النهابة على بيوت اهل المدينة، فاستوعبوا اناسيها، وامتعتها واضرموا النار.. فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب فلم تزل تتوقد الى ان اتصلت بالجامع الاعظم، وارتفعت الى سقفه فسال رصاصه وتهدمت سقفه وحوائطه، وكان امرا بلغ مبالغه في الشناعة والقبح وتصاريف الامور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء). ولو تأملنا العبارة الاخيرة لوجدنا ان ابن خلدون يبدو وكأنه يحاول تبرير فعلة تيمورلنك الشنعاء بكونها قدر محكم من الله سبحانه وتعالى ومثل هذه التبريرات ليست غريبة على العقلانيين من المثقفين خائري الارادة هزازي الرؤوس نهازي الفرص. فبعد ان يلغوا ارادة المقاومة لدى (العامة) بدعوى منطق العقل وفهم توازن القوى وادراك طبيعة المرحلة التاريخية نجدهم ينكصون الى احط درجات سلم التفكير الخرافي والسحري لتبرير انخذالهم ومهانتهم وبعد ان يورطوا ابناء جلدتهم ويسلمونهم للموت والذبح على ايدي الطغاة الذين يتنعم هؤلاء المثقفون بتناول الطعام معهم وتقديم الهدايا اليهم وكأنهم يشكرونهم على تلطفهم في قتل اخوانهم واحتلال ارضهم .. هذا ما يثبته ابن خلدون في سيرته وبعد ان تم تقتيل ابناء جلدته وحرق مدينتهم حيث نجده يقدم هدايا العرفان والشكر الى الطاغية ولا يتورع عن ان يهديه القرآن الكريم. (000 اشار عليَّ بعض الصحاب.. بان اطرفه ببعض هدية، وان كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو، وسجادة انيقة ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للابوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم واربع علب من حلاوة مصر الفاخرة وجئت بذلك فدخلت عليه، فلما رآني مقبلا مثل قائما واشار اليّ عن يمينه..الخ). لكن من مزّق استار هذا التستر و (التواطؤ) واظهر حقيقة ابن خلدون في سلوكه الخياني كما هي ودون اغطية تبريرية (معقلنة)؟ اعتقد ان المبدعين الجسورين هم الاكثر اهلية لتمزيق الاستار والاغطية عن جسد الحقيقة المقدس. وقد جاء الفضح الدقيق والمؤصل والجسور على يدي مبدعين كبيرين راحلين هما: سعدالله ونوس وعبدالرحمن منيف . الاول من خلال مسرحيته الخطيرة: "منمنمات تاريخية" ، والثاني من خلال مداخلته النقدية على هذه المسرحية في مقالته : "ابن خلدون وصورته في منمنمات تاريخية" والتي ختمها كتابه : "لوعة الغياب" اصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر- بيروت/ الدار البيضاء ـ الطبعة الثالثة عام 2003 م ، والتي قال قبيل ختامها وبعد ان ناقش موضوعة (خيانة) ابن خلدون بصورة موضوعية رائعة: (اعتمادا على ما تقدم "نحاكم" ابن خلدون ، ليس بهدف الادانة وانما باستحضاره كنموذج لمثقف كبير قدم اضافات هامة ونوعية في قراءة المجتمعات.. ان مثقفا بهذه الاهمية وبهذا الحجم وايضا خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ العرب في مواجهة الغزو التتري، كان يفترض ان يرفع ثقافته ومعارفه الى مستوى تاريخي خاصة وهو في تلك السن المتقدمة. ولعل الصمت، لو حصل، كان اقل المواقف التي يمكن ان تقبل له او منه. اما حين يسخر ثقافته ومنصبه السابق بتسويغ الغزوة التترية ويكون نديما لتيمور لنك ويعتبره اعظم حاكم منذ ايام آدم.. الخ) فان في ذلك الغاء لعقلانية ابن خلدون تماما. وبغض النظر عن التساؤلات المهمة التي طرحها (منيف) في بداية مقالته عن المواقف الاخلاقية التي يجب ان تتسم بها الثقافة، والعلاقة بين المعرفة والسلوك، ودور الثقافة والمعرفة، وهل يجب ان يكونا في خدمة القوة والسلطان، او في زيادة وعي الناس وصقل ارواحهم والعلاقة بين الطموح المشروع للمثقف واغراءات السلطة والمال، وماذا يعني المثقف ، هل هو مجرد تقني ام صاحب وجهة نظر وضمير !!؟ أقول بالإضافة الى تلك التساؤلات الحساسة ما يزال تساؤلي الأساسي قائما ، وهو : لماذا التستر على خيانة ابن خلدون !!؟ وهي دعوة للنقاش !!! |