مشروع شاعر كن أول من يقيّم
عندما أتذكر أيامي الغالية في المعهد الشرعي للدعوة والإرشاد بدمشق يلوح لي أنني كنت في نظر القائمين على هذا المجمع (مشروع شاعر) وربما كان ذلك بتخطيط من كفتارو رحمه الله، الذي خصني بساعة كل يوم أحد، أزوره فيها في مكتبه في دار الفتوى، ويكون كل حديثنا عن الشعر، وما هو الشعر الذي ينتظره مني الناس، وبقيت أتردد عليه في هذه الجلسة الخاصة مدة عامين. وكان قد أقام على تربيتي شيخين جليلين، هما الشيخ بشير الرز (سلمه الله) والشيخ محمد سعيد بغدادي (حفظه الله) فأما الشيخ بشير الرز فيعود له الفضل الأكبر في العناية بموهبتي والسهر على صقلها وتوجيهها الوجهة الحسنة، وأما الشيخ سعيد بغدادي فلولاه لكنت ضعت في ظلمات الحياة، فهو الذي كان يمد لي يد العون بشتى أنواعه، ويأخذني إلى بيته، ويفتح لي مكتبته، ويقول لي: خذ ما تريد يا زهير.
وكان هو مديرنا في المعهد، فأوعز للأساتذة أن يتركوني وشأني متى أردت الخروج من الصف، لأنني لا أخرج إلا لكتابة قصيدة، فأختار زاوية نائية من زاويا المعهد وأكتب القصيدة، ثم أعود إلى الصف، ثم كان الأساتذة عندما يقدمون لنا ورقة الفحص، يقول الأستاذ: (أما أنت يا زهير فأجب على السؤال كذا، بعشرة أبيات وخذ العلامة التامة) وكانت المفاجأة التي لا يزال بريقها يلمع في عيوني لما قررت إحدى قصائدي في المنهاج الدراسي، على كل المعهد، بما فيهم صفنا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل، جاءتنا هذه القصيدة في الفحص النهائي: (اذكر قصيدة الشاعر زهير ظاظا و...إلخ) وصار الطلاب يصفرون ويصفقون، وأحدهم واسمه نضال رنكو ينادي : (بص شوف زهير بيعمل إيه) وكان الأستاذ الذي يدرسنا قصيدتي هو صاحب دار الرشيد الأستاذ الأديب محمد حسن الحمصي. وقد نوهت هنا إلى هذا الفضل الذي اختصتني به هذه الجماعة الطيبة، لأنني أخشى أن يفهم من بعض شعري أنني أعاديها، ولا والله، يأبى ذلك ما فطرني عليه الله من محبة الوفاء وكراهية الجحود، وإن كان لم تعد تربطني بهذه الجماعة إلا أواصر الصداقة، حيث لا تزال معظم أصدقائي في دمشق من أبنائها.
وأعود هنا لأتذكر حياتي الأولى مع الشعر، والتي بدأتها في حضن أمي (مد الله بعمرها) والتي كانت تحفظ (ألف ليلة وليلة) عن ظهر قلب، فتجتمع أقاربنا في بيتنا كل مساء للاستماع إلى أمي وهي تروي لهم حكاياتها. وكان لها أسلوبها الخاص في قراءة الشعر، حيث كانت تغنيه لنا غناء، فكان غناؤها ذاك هو إيقاع شعري حتى اليوم. وما زلت حتى هذه اللحظة أسمع منها ما لم أسمعه من قبل، وكلما اتصلت بي على الهاتف تقول لي (خذ هذه) فتنشدني بيتين أو ثلاثة، من نوادر الشعر.
ثم إنني اليوم أتذكر أساتذتي في المرحلة الابتدائية فأكاد أجزم أنني كنت أحفظ من الشعر أكثر منهم مجتمعين، ما عدا الأستاذ الفذ (محمد حوا) الذي درسنا في الصف الرابع، فكان عجبا من الأساتذة، وأحسب أنه كان ينفق علينا كل راتبه، وقد حفظنا على يديه من نوادر الشعر =خارج المنهاج= ما يطول ذكره، ولكنني أكتفي بأن أقول إنني حفظت من فمه قصيدة محمود غنيم (وقفة على طلل) وهي زهاء خمسين بيتا، فكان يأمرني أن أصعد جبل قاسيون وأنشدها، ويقول لي: عندما تبلغ هذا البيت يجب أن يسمعك الجامع الأموي، وهو قول غنيم:
| وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها |
|
عـمـن بـنـاه لعل الصخر iiينعاه |
وكنت كسولا جدا في حفظ الشعر المفروض علينا، بل لا أسيغه أبدا، وأذكر أنني كنت في الصف الثالث وأخي في الصف السادس، فكنت آخذ كتابه وأقرأ ما فيه من الشعر، وأشربه مثل الماء، وكانت فيه قصيدة (الحطاب والموت) وهي من روائع الشعر، حفظتها كلها ولا أزال، ولكن كانت الكارثة أنه عندما صرت في الصف السادس تغير المنهاج ولما فتحت الكتاب ولم أر القصيدة اسودت الدنيا في وجهي.
وأما الشاعر الأول الذي بسط جماله وفتنته على قلبي، فهو بلا شك عنترة العبسي، إذ كنت في أيام العيد أحضر فيلم عنتر بن شداد، بطولة فريد شوقي، كل يوم ثلاث مرات، حتى حفظت كل شعره في الفيلم، وكنت وقتئذ في العاشرة، آخذ معي شقيقي الأصغرين، وكان أحدهما في الثانية من العمر، والآخر في الخامسة. ولا أزال أحتفظ بصورة دفعت ثمنها للمصور من عيديتي وتصورنا في المرجة برفقة بعض الجيران بعد خروجنا من فيلم عنتر.
لم أستطع حتى اليوم أن أجمع شعري، وكلما سألني سائل لم لا تجمع شعرك أحس بالاضطراب وأرغب بعدم الجواب. وأريد هنا أن أختم هذه البطاقة بتقديم أسمى آيات الامتنان والعرفان لسعادة الأستاذ محمد السويدي (صاحب الوراق وراعيه) على ما أكرمني به من تعليق قصيدتي (قصر الشعر) في المجمع الثقافي منذ نيسان 2004م وذكرتني هذه القصيدة بطرفة وهي أن ولدي فداء طلب مني قصيدة عن مدرسته وكان في الصف الرابع الابتدائي، ومدرسته هي مدرسة الفارابي في أبو ظبي، فكتبت له قصيدة جميلة جدا، لأنني قفيت الشطر الأول على وزن الفارابي، وأولها:
| مدرسة الفارابي |
|
يا شعلة iiالذهب |
وألقى فداء القصيدة، ولكنه بعد أسبوع جاءني وهو يبكي بكاء مريرا، فسألته عن سبب بكائه ? فقال لي بصوت متقطع: (علقوا القصيدة في المدرسة) فقلت له: وهل هناك خبر أحلى من هذا الخبر? فقال لي: ولكن كتبوا تحتها أنها تقدمة ابن الأستاذ (الفلاني) ولم يذكروا اسمي نهائيا. فقلت له: والله في هذه معك حق يا ابني.
|