ضياء خانم والعجة بالبطاطا     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
سأروي لكم اليوم حكاية أول من دعاني بضياء خانم وكان له الأسبقية ( الزمنية فقط ) على الأستاذ زهير بأكثر من عشرين سنة . غير أنني أريد أن أعتذر قبل البداية للأستاذ النويهي على اقتحام ملفه بهذه الحكايات الخارجة ربما على الموضوع ، وأعده بأنني سأفتح قريباً جداً ملفاً خاصاً بهذه الحكايا لأنافس بها ملفه عن حكايا التراث ، ولقد أعذر من أنذر ..... والله يا أستاذ عبد الرؤوف هذا الشعر الذي تنقله إلينا رائع فهل أنت مترجمه ?
وقبل أن أبدأ أيضاً ، علي أن أوصل جواب السلام للآغا السعدي : خيلي ممنون متشكر آغا
وأيضاً أريد ان أوصل جواب جواد الذي أخذ موضوع الخطوبة بمنتهى الجدية ونهرني عندما عرضت عليه صورة حنان وقال لي : " انت مريضة في رأسك ماما ? " ( وهي الترجمة الحرفية لما قاله بالفرنسية ) هذه طفلة صغيرة ( جواد عمره 12 سنة ) وهذا ليس معناه بأنني سأتراجع ولكن سأنتظر حتى تكبر قليلاً .
الآغا " صادقي " والعجة بالبطاطا
كان ذلك في بداية حياتنا ، وكنا نسكن في تلك الأثناء غرفتين متواضعتين في الطابق الرابع من إحدى البنايات القديمة التي لا يوجد فيها مصاعد . وكان قد أتى ليشاركنا فيها ابن أخت زوجي البالغ من العمر بوقتها أربعة عشر عاماً ، أرسلوه إلينا هرباً من التجنيد العسكري أيام الحرب العراقية الإيرانية .
أما الآغا " صادقي " فلقد كان متعهداً ثرياً قد جاوز الستين من عمره ، وهو من أصدقاء والد زوجي المتوفى ، وكان يأتي إلى باريس لأعماله الخاصة بشراء المعدات ، فيحجز في أحسن فندق ، ويأتي ليتعشى عندنا ذات مساء . وفي نهاية السهرة يقول له زوجي من باب المجاملة :
ـ لم لا تنام عندنا اليوم آغا ?
فيتمنع ولكن لبرهة وجيزة ، ثم يسارع بالقبول قبل أن تسحب منه الدعوة ويتسنى لنا التملص منها . ثم يبقى ويبقى ، أحياناً كل الأسبوع .
ولأنه كان يكره الإقامة بالفندق ، ولأنه كان يشعر بأنه يقتحم علي حياتي بدون أدنى تحفظ ، ودون أن يمنعه ذلك من المعاودة في كل مرة ، فلقد كان يبالغ في مديحي وتفخيمي وخصوصاً عندما يعبر عن شكره العميق لي بقوله :
ـ " ضياء خانم " مرسي بوكوم ( الميم الزائدة من عنده وليست من عندي ) .
وذات صباح ، بعد أن شرب الشاي ، وفكر ملياً بما سوف يقوله ، التفت متوجهاً إلى بالحديث بنبرة وتصميم استنتجت منها بأن ما سيقوله هو خلاصة ما تمخضت عنه أفكاره الليلة الفائتة :
ـ ضياء خانم ! اليوم أنا من سيعد الغداء ! قال .....
...... ثم سكت قليلاً ليسمح لنا باستيعاب الصدمة ، وأردف :
ـ سأحضر لكم أكلة إيرانية خاصة جداً لم تذوقي مثلها في حياتك ! اليوم لن تتحركي عن مقعدك ، ضياء خانم ، فأنا من سيعمل كل شيء !
كان يتكلم وهو يجلس فوق الكنبة كالطاووس ، وتحت رجليه ، على السجادة ، كان يجلس آراش الذي هو ابن أخت زوجي والذي لم أكن قد رأيته حتى حينها بهذه الدماثة وهذه الطاعة مع أحد من الناس . والذي ، وفي لحظة هذا التصريح الخطير ، التفت ليحدق في وجهه مستغرباً ، وليتأكد بأن ما رآه وسمعه علماً وليس حلماً . إلا أن الآغا صادقي حدجه بنظرة طأطأ لها رأسه العنيدة للحال .
ثم نظر إلى ساعته ، واستنتج بأنها كانت قد بلغت الحادية عشرة صباحاً ، فقرر بأن وقت الجد قد حان ورمق آراش بنظرة من عينيه النفاذتين ونهره قائلاً :
ـ إذهب إلى الدكان واشتر البطاطس !
آراش ينتفض ويهب واقفاً كالرمح ، ليهرع إلى الدكان بسرعة البرق مع أنني لم أكن قد نجحت حتى ساعتها بجعله يشتري لي رغيفاً واحداً من الخبز من المخبز الذي تحت البيت ، إلا أنه ذهب لإحضار البطاطا بدون نقاش وبدون تردد ، ولما عاد من مهمته ، نهره مجدداً وأمره بأن يضعها على صينية ويأتي بها إلى هنا ومن ثم بأن يحضر له طنجرة فيها ماء .
ـ إبدأ بتقشير البطاطا ، قال له ، ريثما أعمل لنفسي غليون .
آراش يبدأ بتقشير البطاطا وهو يدخن ، وأنا أعمل بتوضيب أوراق على مكتبي الذي يقع في هذه الغرفة التي أتقاسمها معهم . أكاد أختنق من دخان الغليون ، فأتوجه إلى باب الشرفة لأفتحه . إلا أن الآغا صادقي سيعود ليغلقه بعد خمسة دقائق قائلاً بصوت معسول :
ـ ضياء خانم ، سردة ! خيلي سردة ....( يعني بأن الدنيا برد ) .
وكان أراش قد انتهى من تقشير البطاطا ، فأرسله ليشتري البيض ، ثم لأراه بعدها ، وعلى وجهه سيماء من اتخذ قراراً لا رجعة فيه ، يهبط إلى السجادة ويتربع عليها ، ثم يقرب الطنجرة التي كانت تسبح فيها حبات البطاطس المقشرة ، فيتناول واحدة منها ، ويبدأ بتقطيعها إلى مربعات صغيرة كان يحرص على أن تكون متساوية الحجم ......... كانت تلك المربعات تتساقط من بين يديه وتهوي إلى الماء ، فيتناثر من حول الوعاء مكوناً بحيرة من الرذاذ المتساقط على السجادة الوحيدة التي أمتلكها . ومع كل قبضة من البطاطا المتهاوية في الطنجرة كأنها الغطاسون في حمامات السباحة ، كان قلبي ينخلع أسفاً وندماً على سجادتي اليتيمة ، وكانت نظراتي تراقب كل حركة ، فتفضح عيوني مكنونات صدري ........ ولما كان الأغا لماحاً ، لكن دون أن تستبد به أدنى شفقة بعواطفي الملتاعة ، بل كان يسخر منها لا بد بينه وبين نفسه ، فلقد صار ينظر إلى بشيء من الخبث وبما يشبه التهكم ، محاولاً أن يخفيهما بابتسامة جميلة ، وقائلاً بصوت ظريف وهو يشير إلى موقع الجريمة :
ـ كوكو سبزميني ( يعني عجة بالبطاطا ) ، ضياء خانم . خيلي خوش مزة ( يعني بأنها لذيذة جداً ) ضياء خانم .
نعم ، كانت عجتة لذيذة جداً ، ولم أذق مثلها في حياتي .
|