محمد بن إبراهيم الأسدي: علم ضائع، جدير بأن يهتم سراة الوراق بالبحث عن أثاره وأخباره، استوقفني خبره أثناء بحثي عن مصير حركة الوزير المغربي. لم تصلنا ترجمة للأسدي أوفى مما كتبه القفطي في (المحمدون) وأهم آثاره (الديوان المنصوري: ذيل الحماسة) وقد وصفه القفطي فقال: (وبلغ من وفور حفظه أنْ عمل "الديوان المنصوري" باسم العميد منصور بن سعيد في تذييل كتاب "الحماسة" لأبي تمام الطائيّ وتكميل تلك القطع، قصائد ساحبة الذيل حتى أَربى أبياتها على مئة ألف بيت) والصواب في ولادته ما حكاه القفطي سنة (401) وأما ما ورد في الوافي للصفدي والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي من أن ولادته عام 441 فهو خطأ مطبعي لأن الباخرزي نص على أنه عاش مائة سنة وتوفي سنة (500هـ) وكل من ترجم له يذكر انه اتصل بخدمة الوزير المغربي، الذي توفي سنة 418هـ فلابد أنه اتصل بخدمته في فاتحة شبابه قال القفطي في المحمدون: محمد بن إبراهيم الأسدي أبو عبد الله، من أهل مكة، نشأ بالحجاز وترعرع بها، وبرع بين أهلها، ولقي أبا الحسن التهامي في صباه، وقد كان نبغ في الشعر، فتصدى لمعارضته وحدث نفسه بمقارضته، ومما قاله من الشعر، وهو لم يفارق بعد مسقط رأسه، قوله: قـف بالمحصَّب واسأل أيها iiالرجل | | تـلك الرسوم عن الأحباب ما iiفعلوا | هـمُ أقـامـوا لـعهدي في ديارهمُ | | أم صرفتهم صروف الدهر فاحتملوا؟ | فـمـا أُسـائـلُ عـن آثارِهم iiأحداً | | إلا أجـاب غراب البين: قد iiرَحلوا | وخرج الأسدي هذا من مكة، وهو بعد لم تخلق نضارة شبابه، ودخل اليمن وأقام بها برهة من الزمان، يساير رفاق المنى في طرق الهوى، وعلق بها جارية تسمى رشادة، ولم تطل الأيام حتى ابتلى بفراقها وحملها بعض التجار إلى بغداد، فقال من قصيدة: لـما استقلَّتْ مطايا صاحبيَّ iiضحى | | تخدى من العدوة القصوى لدى اليمن | نـاديـتهم وبنات الشوقِ في iiخَلدي | | رقـصن رقص المطايا الوُفَّد iiالبُدُنِ: | بالله ربِّـكـمـا إن جـئـتما iiعدَنا | | فـحـيِّـيا منزلي بالسيف من iiعَدَن | ثم خرج من اليمن متوجهاً إلى العراق، وغصن شبابه بعد رطيب، وبُرْدُ آدابه كما عهد قشيب، واتصل بخدمة الوزير الكامل أبي القاسم المغربي وحظي عنده، وامتدحه بقصائد منها قصيدة مطلعها: سلامي وَداعٌ والوَداع iiسلام | | أما آن أن يقضى لديك ذِمامُ؟ | أيا ربَّة البيت المهان iiنزيله | | إذا عزَّ عند الأكرمين iiكِرامُ | ثم اتفقت له فيئة نحو الحجاز، ولم تطل أيامه بها حتى أخذ في السفر، وصار خدعة الحضر، يُنجد ويُتهم، ويُعرق ويُشئم، ويُصحر و يُبحر، ويُدلج ويُسحر، وذكره يسير أمامه فيوري زناده، وفضله يطلع معه فيبسط له مهادَه، حتى نوّر غصن عمره، وعَلا غُبار وقائع دهره، فورد خراسان، وانحاز إلى الوزير علي بن شاذان، ولم تطب أيامه عنده، فامتد منها إلى غَزْنَة: وذلك في سنة ست وأربعين وأربعمئة، وأقام بها إلى حين وفاته. كتب إليّ أبو الضياء الشذباني، أنبأنا السمعاني في كتابه قال: وذكر صديقنا أبو العلاء محمد بن محمود القاضي الغزنوي- رحمه الله- قال: قرأت بخطّ محمد بن إبراهيم الأسدي المكي أنه لما صار مع رفقائه إلى أبي سهل الجنبُذي، وهو إذ ذاك زمام الملك وإمام الديوان، تحفَّى به وتلطف له، وأخذ يسأله عن أهل البادية، ومن بلغ إلى قرض الشعر منهم، وكان يستنشده ملح أشعارهم، ويتعرفه لمح أخبارهم، حتى ذكر: أنه بلغني ذكر فتى من بني أسد يقال له محمد بن إبراهيم، ثم أنشدت قوله: تقضَّى الصبى عني وولَّت iiشبيبتي | | وأنفضتُ والطاوي المراحل ينفضُ | ومـا هـذه الأيـام إلاّ iiمـراحل | | ومـا الـنـاس إلا راحلٌ فمقوِّضُ | كـأنّ الـفـتـى يبني أوان شَبابِه | | ويـهدم في حال المشيب iiوينقُضُ | فـلا لـحـمَ إلاّ وهو منه iiمُرَهَّلُ | | ولا عـظم إلا وهو منه iiمُرَضضُ | فتبسم في وجهه وقال: إنه وافدك المسلم ببابك، المنيخ في جنابك، وواجهه بقصيدته الفريدة التي مطلعها: ديار الحيّ أبن هم iiقطون؟ | | أنعمانُ الأراك أم الحَجون؟ | ثم سأله تعيين قصيدة يساجل قائلها في معارضتها، فقال أبو سهل: أتروي شعر الفرزدق؟ قال: نعم! قال: فأين أنت من قوله: وماذا عسى الحَجاج يبلغ جهدُه | | إذا نـحن جاوزنا حفير iiزيادِ | فاعتزل الأسديُّ القوم واحضر البياض، وأنشأ قصيدة في الحال أخذت بمجاميع قلبه وهي: أيا ظبية الوعساء من جانب الحمى | | سـقى عهدك الماضي سِجال iiعهادِ | وجـاد مـغـانيك الخوالي iiوأهلَها | | روائـحُ مـن ركب الجياد iiغوادي | ولما أكمل القصيدة وناوله سوادها، أقبل عليه وارتبطه لنفسه واحتضنه بمجلسه، فاختصّه بمجلسه، ومع ذلك كان يستزيده، فلا تبلغ كثرة إحسانه ما يريده، حتى قال فيه: كـفى حَزناً أني خدمتك iiبرهة | | وأنفقتُ في مدحيك شرخ شبابي | فـلم يُروَ لي شكرٌ بغير شكايةٍ | | ولـم يـر لي مَدحٌ بغير iiعتابِ | وبلغ من وفورحفظه أنْ عمل "الديوان المنصوري" باسم العميد منصور بن سعيد في تذييل كتاب "الحماسة" لأبي تمام الطائيّ وتكميل تلك القطع، قصائد ساحبة الذيل حتى أَربى أبياتها على مئة ألف بيت، ومن بديع شعره: قـلـتُ: ثقّلتُ إذ أتيت iiمراراً | | قـالـ: ثقَّلتِ كاهلي iiبالأيادي | قلتُ: طَوَّلتُ. قال: لا بل تطوَّل | | تَ وأبـرمتُ. قال: حبل iiالوداد | وذكر القاضي أبو العلاء النيسابوري أن أبا عبد الله محمد بن إبراهيم الأسدي ولد بمكة في المحرم سنة إحدى وأربعمئة وتوفي بغزنة مستهل محرم سنة خمسمئة. |