الإفراط في الاستعارة     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
طالعت اليوم في كتاب ( الوساطة بين المتنبي وخصومه ) لعلي بن عبد العزيز الجرجاني - غفر الله لنا وله وجزاه خيرًا - ، ولم يسبق لي مطالعته من قبل ، لكن الكتاب يدلُّ أبلغ دلالة على موقع صاحبه من العلم والبلاغة ، وأن من أثنى على كمالات الرجل ممن ترجم له = فقد همز شاكلة الصواب بلا تزيُّدٍ أو إغراقٍ ، ومن قرأ هذا الكتاب وكتاب ( أسرار البلاغة ) لعبد القاهر الجرجاني = قال : إنهما يقبسان من نارٍ واحدةٍ ، وقد استللت من نشرة الوراق هذا الفصل ، مع تصويب أخطاء إملائية طفيفة . ( الإفراط في الاستعارة ) وقد كانت الشعراء تجري على نهْج منها قريب من الاقتصاد، حتى استرسل فيه أبو تمام ومال الى الرّخصة، فأخرجه الى التعدي، وتبعه أكثر المحدَثين بعده، فوقفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة، والتقصير والإصابة. وأكثرُ هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه، وأقمت لك الشواهد عليه، وأعلمتك أنه يميَّز بقبول النفس ونفورها، وينتقد بسكون القلب ونبوّه. وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه، واهتدتْ الى الكشْف عن صوابه أو غلطه، وقد كان بعض أصحابنا يجاريني أبياتاً أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة، وخرج عن حد الاستعمال والعادة؛ فكان مما عدد منها قوله: مسرّةٌ في قُلوب الطّيبِ مفرِقُهـا - وحسرةٌ في قلوبِ البَيض واليلَبِ وقوله: تجمعتْ في فؤادِه همَـمٌ - ملء فؤاد الزمان إحداها فقال: جعل للطيب والبيض واليلَب قلوباً وللزمان فؤاداً. وهذه استعارة لم تجر على شبه قريب ولا بعيد؛ وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من المناسبة، وطرف من الشبه والمقاربة. فقلت له هذا ابن أحمر يقول: ولهت عليه كل مُعصفة - هوجاء ليس للبّها زبْر فما الفصل بين من جعل للريح لُبّاً، ومن جعل للطيب والبيض قلباً! وهذا أبو رميلة يقول: هم ساعدُ الدهر الذي يتقي به - وما خير كف لا تنوء بساعدِ وهذا الكميت يقول: ولما رأيت الدهرَ يقلِبُ ظهـره - على بطنه فعل الممعّك بالرّمل وشاتم الدهر العبقي يقول: ولما رأيتُ الدهر وعْراً سبيلُه - وأبدى لنا ظهراً أجبّ مسمّعا ومعرفة حصاء غير مفاضة - عليه ولوناً ذا عثانين أجْدَعـا وجبهة قرد كالشِّراك ضئيلة - وصعّر خديه وأنفاً مجدَّعـا فهؤلاء قد جعلوا الدهرَ شخصاً متكاملَ الأعضاء، تامّ الجوارح؛ فكيف أنكرت على أبي الطيب أن جعلَ له فؤاداً! فلم يحِرْ جواباً غير أن قال: أنا استَبَرْت ووجدت بين استعارة ابن أحْمر للريح لُبّاً، واستعارة أبي الطيب للطيب قلباً بوْناً بعيداً، وأصبت بين استعمال ساعد للدهر في بيت ابن رميلة، واستعمال فؤاد للزمان في بيتِ أبي الطيب فصلاً جليّاً، وربما قصر اللسان عن مُجاراة الخاطر، ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس. حدّثني جماعةٌ من أهل العلم عن أبي طاهر الحازمي وغيره من شيوخ المصريين عن يونس بن عبد الأعلى قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن مسألة فقال: إني لأجد بيانَها في قلبي،ولكن ليس ينطلقُ به لساني.وما أقربَ ما قالَه من الصواب وأخلقه بالسداد! وقد أجِد لهذا الفصل الذي تخيّل له بعضَ البيان؛ وذلك أنّ الريحَ لما خرجت بعُصوفها من الاستقامة، وزالت عن الترتيب شُبِّهت بالأهوج لا مُسكَة في عَقله، ولا زَبر للُبّه؛ ولما كان مدار الأهوج على التباس العقل حسُن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً، فأما الدهرُ فإنما يرادُ بذكره أهلُه؛ فإذا جعل للدهر ساعداً وعضُداً ومنكِباً فقد أقيم أهلُه مقام هذه الجوارح من الإنسان؛ وليس للطيب والبَيضِ واليلَب ما يُشبه القلب، ولا ما يجري مع هذه الاستعارة في طريق.وقوله: ملء فؤاد الزمان إحداها إن عدل به الى أهله وأزيل عن مقتضى لفظه اختلّ المعنى وانقطع عن قولِه بعده: فإنْ أتى حظُّها بـأزمـنةٍ - أوسعَ من ذا الزّمانِ أبْداها فهذا فصلٌ واضح وفرقٌ ظاهر. وأما أبيات شاتم الدهر فإنما صدرت مصدرَ الهزْل، وجرَتْ على عادةٍ في الاستعمال مُتداولةٍ؛ وذلك أنهم لما ابتذلوا اسمَ الدهر واعتمدوا على صرْفِه في الشكاية والشُكر، وأحالوا عليه باللّوم والعتْب، وألِفوا ذلك واعتادوه حتى صار أغلبَ على كلامهم، وأكثر في شعرهم وخطابهم من ذِكر أهله وأبنائه، ومن تقعُ هذه المحامد والملاوم عنه، ويحدُثُ أسبابُها عن جهته صار كالشخص المحمود المذموم، والإنسان المحسنِ المسيء، فوُصِف بأوصافه، وحلي بحلاه، وجعل له أعضاء تعدّ وتُنعت، وتستكرم وتستُهجَن، ومثل هذه الألفاظ قول امرئ القيس؛ يريد الليل: فقلتُ له لما تمطّى بصُلبِـه - وأردَف أعْجازاً وناء بكلْكَلِ فجعل له صُلباً وعجُزاً وكلْكَلاً لما كان ذا أوْلٍ وآخر، وأوسط مما يوصف بثقل الحركة إذا استطيل وبخفّة السير إذا استقصر؛ وكلّ هذه الألفاظ مقبولة غيرُ مستكرهة، وقريبة المشاكلة ظاهرةُ المشابهة، وإنما يُحمَل ما جاء من ألفاظ المحدَثين وكلام المولَّدين زائِلاً عن هذا الموضع وغير مستمرّ على هذا السّنَن على وجوه تقرِّبهم من الإصابة، وتقيمُ لهم بعضَ العُذر، وتلك الوجوه تختلفُ بحسب اختلاف مواضعه، وتتباين على قدْر تبايُن المعاني المتضمنة له، فإذا قال أبو الطيب: مسرّةٌ في قلوبِ الطّيب مفرِقُها فإنما يريد أن مباشرةَ مفرِقها شرف، ومجاورتَه زيْنٌ ومفخرة، وأن التحاسدَ يقع فيه، والحسرةَ تقع عليه، فلو كان الطّيبُ ذا قلْب كما لو كانت البَيض ذوات قلوب لأسِفت؛ وإذا جعل للزمان فؤاداً أملأته هذه الهمّة فإنما أورده على مقابلة اللفظ باللفظ، فلما افتتح البيتَ بقوله: تجمّعتْ في فؤادِه همَم ثم أراد أن يقول إن إحداها تشغل الزمان وأهله ولا يتسع لأكثرَ منها ترخَّص بأن جعل له فؤاداً وأعانَه على ذلك أنّ الهمةَ لا تحل إلا الفؤاد، وسهّله في استعارة الأوصاف. وإذا قال أبو تمام: يا دهرُ قوِّمْ من أخدَعَيْك فإنما يريد: اعدل ولا تجُر، وأُنصِف ولا تحِفْ. لكنه لما رآهم قد استجازوا أن ينسُبوا إليه الجَوْر والميل، وأن يقذفوه بالعَسْف والظلم، والخُرْق والعنف، وقالوا: قد أعرض عنا، وأقبل على فلان، وقد جفانا وواصل غيرنا، وكان الميل والإعْراض إنما وقع بانحراف الأخْدَع وازْورار المنْكِب، استحسن أن يجعلَ له أخدعا، وأن يأمُر بتقويمه. وهذه أمور متى حُمِلت على التحقيق، وطلب فيها محض التقويم أُخرِجت عن طريقة الشعر، ومتى اتّبع فيها الرخص، وأُجرِيت على المسامحة، أدّت الى فساد اللغة، واختلاط الكلام. وإنما القصد فيها التوسط والاجتزاء بما قرب وعُرِف. والاقتصار على ما ظهر ووضح. |