مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : حوار مع أبي العتاهية    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 فادي 
27 - أبريل - 2009
حوار مع أبي العتاهية
      صعدت السلم اللولبي الذي يوصل إلى غرفة صديقي أبي العطاء الذي كان يتميز بالجد والمثابرة على طلب العلم. كان شاباً أسمر اللون نحيلاً خفيف الحركة بساماً لطيف المعشر، قد شرب من ماء عين الفيجة منذ نعومة أظفاره،فكان شامي اللهجة رغم أنه من الحبشة.
وصلتُ باب الغرفة وقبل أن أطرق الباب قرأت ورقة كان قد ألصقها على باب غرفته نسبها إلى أبي العتاهية يقول فيها:
رغيفُ خبزٍ يابسٍ تأكله في زاويه
وكأسُ ماءٍ باردٍ تشربه من صافيه
وغرفةُ صغيرةُ نفسك فيها خاليه
خيرٌ من السّكنى بظلات القصور      العالية
       سقى الله أيامك يا أبا العتاهية … لقد سجلت عنواناً للزهد على صفحات الإنسانية، لقد كانت أيامك هادئة، فالمرء يزهد باختياره إذ كل ما يحتاجه متوفر ومتاح، الخبز واللحم والماء البارد والقصور العالية…كل هذا موجود ، فحاول الزهاد والمصلحون أن يصححوا طريق العباد الذي انحرف بهم إلى زاوية الملذات حتى غرقوا بها.
       إن حقيقة الزهد أن تجد شيئاً أمامك فتتركه لا عن عجز منك ولكن زهداً فيه وطلبا لما هو أحب إلى الله تعالى منه؛ تربية للنفس للوصول إلى مقام القرب، وهذا ما جلاّه ابن المبارك رحمه الله تعالى عندما قيل له: يا زاهد، فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيما ذا زهدت؟.
    إن الإنسان اليوم يترك الضروريات مكرهاً لا زهداً… ألا فانظر يا أبا العتاهية إلى حالنا اليوم، فلقد أصبحنا زهاداً بالقوة، لقد أجبر إنسان اليوم على الزهد إجباراً وسيق إليه سوقاً، فهو إن أراد أكل اللحم صاح راتبه الشهري صوتاً تقشعر منه جلود الموظفين، وإن أراد الاستمتاع بجمال الطبيعة صدم بما يجده من ارتفاع للأسعار حتى في وسائل النقل، إلا إذا كان يملك حماراً!!.
   و إذا أراد استبدال قميص مكان قميصه الذي اهترأ من كثرة الغسيل والكي، كُوي بما يراه من أسعارٍ في المحلات.
 فماذا تقول يا شاعرنا لو كنت معنا وبحثت عن رغيف خبز فلم تجده إلا بعد خوضك معركة ربما تكون الغالب فيها إن كنت من أصحاب العضلات المفتولة، أو تجمعك علاقة مع بائع الخبز …فهل تزهد حتى في رغيف الخبز؟؟.
 
إشارة:
       لكسرة من رغيف خبــز     تؤدم بالملح والكرامه
      أشهى إلى الحر من طعام     يختم بالشــهد والملامـــه
فادي كمال سميسم  


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
خصال حميدة , لكنها للأغنياء فقط    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
... وهكذا فإن الفقير لا يستطيع أن يتمتع ببعض الخصال الحميدة , , ,
فهو لا يستطيع أن يكون زاهداً , بل مزهوداً فيه
ولا يستطيع أن يكون كريماً , بل مُتَكرماً عليه
                 أشكرك أستاذنا الكريم على هذا الموضوع الجميل
*محمد هشام
2 - مايو - 2009
الزهد في الإسلام (1)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
بسم الله و الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فالزهد هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك، ويعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر فهي كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} سورة الحديد : 20، و سماها الله {مَتَاعُ الْغُرُورِ} و نهى عن الاغترار بها.
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المائدة:87.
حقيقة الزهد
وليس المقصود بالزهد في الدنيا رفضها فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه
 و سلم أزهد البشر قاطبة، وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وغيرهم كثير.
وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه، وقال الحسن: ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء.
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
من أقسام الزهد
والزهد في الحرام فرض عين، أما الزهد في الشبهات، فإن قويت الشبهة التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحباً، وهناك زهد في فضول الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس حيث تهون عليه نفسه في الله، والزهد الجامع لذلك كله، هو الزهد فيما سوى ما عند الله، وفي كل ما يشغلك عن الله، وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ.
من فضائل الزهد
لقد مدح الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى:
 {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} سورة الرعد: 26، وقال عز وجل : " إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يونس:24، وقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} سورة الحديد: 23، وقال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} سورة غافر: 39.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة).
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله دلّني على عمل، إذا أنا عمِلته، أحبني الله، وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
 
*د يحيى
3 - مايو - 2009
الزهد في الإسلام (2)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
الصالحون على درب الأنبياء ساروا
ولما كان صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة، فقد سار على دربه الأفاضل، فعن علي رضي الله عنه أنه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء دثاراً، ورفضوا الدنيا رفضاً.
وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام .
وعن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت:
لو ذكرتني لفعلت قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له.
ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره).
 ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلّب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر:
ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثاً، فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب بمصر ويقول: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها.
وقال علي رضي الله عنه تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح (البعير) بالنهار ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.
*د يحيى
3 - مايو - 2009
الزهد في الإسلام (3)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم، وقال مالك بن دينار: يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي (فاتنة الحي)، فتقول: أريد مرطاً (أكسية من صوف) فتمرط دينه (أي تذهب به).
وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا، وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام، وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربع مئة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.
وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة.
وقال الشافعي في ذم الدنيا والتمسك بهاوما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها.

وكان أبو سليمان الداراني يقول: (كل ما شغلك عن الله، من أهل ومال وولد فهو مشؤوم طويت الدنيا عمن هم أفضل منا) ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما أن فيه تمام التوكل على الله، وهو يغرس في القلب القناعة، إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
والزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم نيام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه. فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن وللناس شان، وكن عبداً لله في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.
 
 موقع الشبكة الإسلامية
*د يحيى
3 - مايو - 2009
الإسلام وفكرة الزهد    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
الإسلام و فكرة الزهد
الكاتب : العلامة الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله ).

الإسلام و فكرة الزهد

مقال متميز حول فكرة الزهد في الاسلام للعلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله ) [1]
تعرضت كتب التاريخ و التراجم لسيرة الملوك و الأمراء ، و قادة الجيش ، و لم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين ، و مع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة و الحكام ، لأن حياة هؤلاء و تاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية و تاريخ المجتمع على ، أن المؤرخين و أصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء و رجال الدين و علماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس و الشقاء ، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء و المعرفة ، لا لأنهم من ذوي الفقر و الفاقة ، فمن هؤلاء :
عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل ، و قد ضاق به العيش في بغداد فهجرها ، و لدى خروجه شيَّعه خلق كثير من سائر الطوائف ، فقال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية .
و منهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحْوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً .
و منهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين ، و الخص خيمة من القصب .و منهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه ، كان شيخ الشافعية في عصره و بلغ من العمر مئة و ستين سنة صحيح العقل و الفهم و الأعضاء ، يفتي و يقضي و يدرس ، كان له و لأخيه عمامة و قميص ، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت و إذا أراد غسلها جلسا فيه معاً ، و في ذلك قال الشاعر :
قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم *** لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
و منهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه ، كان ينسج و يأكل من كسب يده ، و منهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني ، قيل في سيرته : انه إمام المذهب على الإطلاق و شيخ الإسلام و المسلمين قاطبة ، و كان يحضر مجلسه ثلاث مئة متفقه ، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس ، و يقرأ و يطالع على ضوء فانوس الحرس .
و منهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم و الفنون ، و قد بلغ به الفقر و الجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها .
و منهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم و اليومين لا يذوق الزاد ، و كان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد .
و كان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه و مكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم .
و باع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه ، و يكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر و أئمة الدين و اللغة البائسين ، و تمهيداً لبيان .
 
 
*د يحيى
3 - مايو - 2009
الإسلام وفكرة الزهد (2)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
 و تمهيداً لبيان فكرة الزهد و أسبابها .
عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين ، و اشتغل شيخ الإسلام و المسلمين حارساً ، و مات الأخفش من الجوع ، عاش هؤلاء و أمثالهم في الحرمان و هم يرون أن الأموال تجبى من العامل و الفلاح و غيرهما في شرق الأرض و غربها ليبذرها الخونة و المقامرون على الحرام و الفسوق ، و يمتلكون بها الدور الشاهقة و الضياع الواسعة ، و كان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط و الاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم ، و الذين لم نأت لهم على ذكر ، و عوضاً من أن يحملهم هذا الاستياء على النضال
و جهاد القائمين على الظلم ، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الإصلاح ، و تبدل الحال و تولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا ، و التهوين من شأنها . و كان لهذه الفكرة خطورتها و تأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين ، فكتب علماؤهم في الزهد و أطالوا ، و دعوا إليه في المساجد و المحافل ، و ألبسوه ثوب الدين و القداسة ، و الزهد بمعنى الإعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم ، و لا في السنة النبوية ، و إنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم و فاقتهم ، إن أفكار الإنسان و رغباته لا تأتيه عفواً ، و لا تهبط عليه من السماء ، و إنما تتولد من واقع حياته ، و الظروف التي تحيط به .
و لولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض ، لولا الطمع و ظلم الإنسان للإنسان ، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي ، و المساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد ، لما عرف الناس معنى الزهد ، و لما كان للفظه في قواميس اللغة عين و لا أثر ، و يكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام علي عليه السلام ، و أبي ذر ، و غيرهما من أنصار الحق ، و دعاة العدالة .
قال الإمام : هيهات أن يغلبني هواي ، و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، و لعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، و لا عهد له في الشبع .
و قال أبو ذر : عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعُمُّ كل معوز .
أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة و طيباتها لا رغبة عنها ، بل احتجاجاً على من استأثر بها ، و احتكرها لنفسه دون سواه . أرادوا أن تكون الحياة و خيراتها للجميع ، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة ، أرادوا القضاء على الفوارق و الامتيازات ليعيش الجميع في أمن و سلام ، فلا تكالب و لا تطاحن على أرزاق الشعوب ، و لا حقد و لا حسد على الرغيف .
زَهَد الإمامُ في لذائذ العيش ، و هو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع ، و فيهم جائع واحد .
إن الإعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها ، كما فعل الإمام ، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة و أهميتها لا على احتقارها و ازدرائها ، و قد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء ، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه و حياته ، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب و موارد ثرواتهم !
*د يحيى
3 - مايو - 2009
(3)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
أما الآيات و الروايات التي استدل بها بعض الزهاد ، فلا تدل على الترغيب في التقشف و الإعراض عن اللذائذ ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات ، و الكف عن السلب و النهب ، و الخيانة و الكذب ، على أن يضحي الإنسان بالنفس و المال في سبيل الحق ، و لا يؤثر الخبيث على الطيب .
قال اللّه سبحانه و تعالى : ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [2]
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ ... [3]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [4]
المُحَرَّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه و تهاونه بنصيبه من هذا الحق .
و قد جاء في الحديث الشريف : " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، و لا الآخرة للدنيا ، و لكن خيركم من أخذ من هذه و هذه - المؤمن القوي خير و أحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف " .
و لا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة ، و ما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها ، و سلك بها سبيل الخير و العمار ، لا سبيل الشر و الدمار .

 
[1] نشر هذا المقال في مجلة رسالة الإسلام في نيسان 1954 م .
[2]
القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 77.
[3]
القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 65.
[4]
القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 87 .
 
مركز الإشعاع الإسلامي.
*د يحيى
3 - مايو - 2009

 
   أضف تعليقك