مراجعات لعيون التراث
عمرو على بركات
إن إحياء التراث هو أن نحيى الماضى بلغة الحاضر، لا أن نسحب الماضى إلى الحاضر، ولقد كانت معجزة أهل الكهف الحقيقة ليست فى دخولهم للكهف، ولا فى نومهم، وإنما عندما خرجوا فوجدوا أنفسهم فى زمان غير زمانهم، وجدوا أنفسهم وقد باتوا تراثاً فى غير أوانه، فكان قرارهم المعجزة بان يدخلوا الكهف مرة ثانية، فدخولهم ثانية يحمل معجزة اكبر من دخولهم أول مرة، فهى معجزة قناعتهم بالزمن، والاقتناع بان الزمن ليس زمانهم، حتى مع وجودهم للأفكار السامية التى ناشدوها فى الماضى، فهى لم تعد أفكارهم، وهنا يكون محققوا التراث هم من يمنحون أهل الكهف عمراً أخراً فوق عمرهم، ويمنحوهم الفرصة للبقاء فى زمن غير زمانهم، خارج الكهف، مع استمرار الحياة، دون أن يحاولوا الدخول بالمجتمع كله خلف أهل الكهف، فبناء أهل أهل الكهف عليهم سوراً يعكس وعى المجتمع المثالى بتراثه، فلم يجبروهم على العيش معهم، ولا دخلوا الكهف معهم، وإنما اتخذوا عليهم مسجداً، فمحققوا التراث هم رجال أدركوا زمانهم بوعى، وتراثهم كقيمة، وحملوا أمانة إحياء قيمة التراث بالوعى بالزمن، وليس الحياة فى التراث خارج الزمن.
اللغة العربية لم تعرف كلمة"تراث"؟!
لا توجد فى معاجم اللغة العربية كلمة"ترث"، فقط توجد"تفث" بمعنى إذهاب الشعث والدرن، للتحلل من إحرام الحج،و"تلث" وهو نوع من نجيل السباخ،و"توث" بمعنى ثمرة التوت، ولكن لا توجد الكلمة الجذر لكلمة "تراث"، وهنا يطل علينا المعجم التاريخى الغائب للغة العربية، والذى يؤرخ لقلب تاء بعض الكلمات المبدوءة بها واو، مثل وخم، أصبحت تخمة، فرحنا نبحث عن التراث فى جذر كلمة "ورث"، ويؤرخ القرآن الكريم لأقدم استخدام لكلمة تراث فى الآية {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا} (19) سورة الفجر، فسرت على منع العرب الجاهليين من توريث النساء، ولكنها قد تحمل معانى متقدمة عن هذا المعنى فى عدم إحياء التراث بكافة إشكاله الثقافية، فيصبح الواقع منبت الصلة بالماضى، ويقصد بإحياء التراث عند العلامة د."عبد السلام هارون" بأنه إبراز نصوص المخطوطات محققة، موثقة بقدر الإمكان، مع الوثوق بعنوان الكتاب، والثقة باسم المؤلف ونسبة الكتاب إليه، ولكن قد تحدث فواجع أثناء تحقيق التراث، فينسب الكتاب إلى غير مؤلفه، أو يتم تحيق الكتاب باسم لايمت بصلة له.
جواهر القرآن ليس للزجاج
أسهمت كتب انساب الكتب، والمعروفة بالفهارس فى تدعيم هذا اللبس، عندما ضمت العديد من الكتب التى تحمل عنوان"إعراب القرآن"، أو"معانى القرآن"، وكذا الإشارات المرجعية لأعلام المؤلفين مثل "السيوطى" للكتب التى اطلع عليها منها:"إعراب القرآن" ل"أبى البقاء"، ول"السمين الحلبى"، و "السفاقسى"، فقد ضللت كثرة الكتب التى تحمل نفس العنوان محققى التراث، فقد أعلن د."عبد الحكيم راضى"رئيس تحرير سلسلة الذخائر الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، بان كتاب "إعراب القرآن" والمنشور منسوباً ل"الزجاج"، هو فى الحقيقة"جواهر القرآن" لصاحبه المجهول"الباقولى"(ت543هـ)، ذلك بعد أن قام المرحوم "إبراهيم الابيارى"(1902-1994م) بنشره عام 1965م، تحت عنوان"إعراب القرآن للزجاج"، فى ثلاثة أجزاء، ولكن كيف حدث هذا التصحيح، وما ملابساته؟ بالرجوع لمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق عام1973م نجد مقالين للعلامة المرحوم"أحمد راتب النفاخ" يذكر فيهما تصحيح نسب جواهر القرآن، ونسبته لصاحبه الحقيقى،"أبو الحسن على بن الحسين الباقولى"(ت543هـ)، الذى قال عنه"البيهقى" فى وشاحه:"هو فى النحو والإعراب كعبة لها أفضل العصر سدنة، وللفضل فيه بعد خفائه اسوة حسنة"، ويشير د." محمد الطويل" فى تقدمته للكتاب المنشور بعد عودته لمؤلفه الحقيقى إلى سبب الخلط فى نسبته ل "الزجاج"، أن النسخة اليتيمة من هذا الكتاب والمحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 528 تفسير، مكتوبة بمعرفة" أبو الحسن الخازمى" بمدينة شيراز سنة 610هـ ، نسخة ذهبت منها ورقتها الأولى، التى تحمل اسم الكتاب، ومؤلفه، وذهب منها صدر مقدمته، ولكن جاء محقق مجهول، ضليع بقواعد تحقيق المخطوطات!؟ وجعل فى أوله ورقة كتب فيها"إعراب القرآن للزجاج".
نقد النثر ليس لقدامة بن جعفر
عرف العرب نقد النثر، مع معرفتهم للنثر نفسه، فالفن لا يتقدم إلا بمصاحبة نقاده، وأقدم ما وصل إلينا من كتب النقد:"رسالة عبد الحميد الكاتب"(ت132هـ)،و"صحيفة بشر بن المعتمر"(ت210هـ)،و"البيان والتبين للجاحظ"(ت255هـ)، أما "قدامة" الذى نسب إليه "نقد النثر"،هو"أبو الفرج قدامة بن جعفر بن زياد الكاتب البغدادى" والمولود بالبصرة عام 260هـ على التقريب، كما ورد فى الفهرست،كان والده أديباً فتعلم منه، وتعلم من معاصره"المبرد" صاحب "الكامل"،برع فى البلاغة، والحساب، له "نقد الشعر"، وهذا ما ضلل محققى التراث فنسبوا إليه"نقد النثر" على سبيل الخطأ، ونشر عام 1941م، وطبع بالمطبعة الأميرية بالقاهرة، تحقيق د."طه حسين"،و"عبد الحميد العبادى"، وليس هو بنقد للنثر، وإنما هو"البرهان فى وجوه البيان"، وان صاحبه الحقيقى الذى غاب عن الإعلام التراثى هو"إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب"، حقق منسوباً لصاحبه الحقيقى بمعرفة د."احمد مطلوب"،و د."خديجة الحدينى"، وطبع ببغداد عام 1967م، كما قام برد البضاعة لأصحابها"حنفى محمد شرف" عندما حقق "البرهان فى وجوه البيان" عام 1969م بمطبعة الرسالة فى القاهرة.
الرسالة العذراء ليست لابن المدبر
يشير "نبيل خالد رباح أبو على" فى كتابه"نقد النثر فى تراث العرب النقدى" والمنشور سنة1993م، إلى "الرسالة العذراء" بأنها من انضج الرسائل فى موضوعها، حيث استقصى المؤلف ـ يقصد ابن المدبرـ فيها كل ما تعلق بكتابة الرسائل فتحدث عن طبيعة الكتابة وأدواتها، ثم مؤهلات الكاتب، وثقافته، ونقد الاسلوب، ونقد المعنى، و"ابن المدبر" هو"أبو اليسر إبراهيم بن محمد بن المدبر" شاعر متقدم فى الأصل، عراقى المولد، اشتغل بالوزارة أيام"المتوكل"، و"المعتمد" توفى سنة 270هـ ، وقام الدكاترة"زكى مبارك" بتصحيحها ل"ابن المدبر"، وشرحها بطريقة المتن من أعلى والشرح بالهامش، عام 1952م، وطبعتها دار الكتب المصرية، إلى أن جاء الرائع د."محمود على مكى"(1929م) ونشر فى مجلة مجمع اللغة العربية عام 1988 مقالاً حول"الرسالة العذراء" المنسوبة خطأ ل"ابن المدبر"، فصحح ما وقع فيه د."زكى مبارك"، وأعاد العذراء إلى صاحبها، وهو"أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيبانى" (ت298هـ)، وهو احد معاصرى"ابن المدبر" ويشترك معه فى الاسم، واسم الأب، واسم الجد،وهى رسالة لم تعاد طباعتها حتى اليوم باسم صاحبها الحقيقى.
الجامع الكبير ليس لضياء الدين بن الأثير
لم يكن "ضياء الدين بن الأثير"(558-637هـ) فى حاجة لان ينسب اله مؤلفات لم يؤلفها، فيكفيه انه صاحب "المثل السائر"، فيأتى محققوا المخطوطات فينتزعون كتاب شقيقه" عز الدين بن الأثير"، وينسبونه إليه، وهو كتاب" الجامع الكبير فى صناعة المنظوم من الكلام والمنثور"، وان كان"عز الدين"(555-630هـ) هو صاحب الكتب الشهيرة:"الكامل فى التاريخ"، وكتاب" أسد الغابة فى معرفة الصحابة"، و"اللباب فى تهذيب الأنساب"،إلا أن عودة الكتاب لصاحبه لا شك قد أراحت رب عائلة "ابن الأثير"، وهو "محمد بن عبد الواحد الشيبانى"، لقب أبناؤه بأبناء"الجزري" نسبة إلى جزيرة "ابن عمر"، والتى عهد له بولايته خراجها بين عامى541هـ و565هـ بالعراق، فله ثلاثة أبناء من أعلام الأدباء فى التراث، هم"ضياء الدين"،و"مجد الدين"،وكان محدثاً فقيهاً، و"عز الدين"، إنها عائلة بلبلت محققى المخطوطات.
لاشك أن مثل هذه المراجعات التراثية، يحتاج إلى إعادة تصحيح المراجع التى اعتمدت على نسبه هذه المؤلفات لغير مؤلفيها، وما يتبعه من ارتباط المنتج التراثى الثقافى بعصر هو فى الحقيقة عصر المؤلف، مثل المراجع التى أرخت لتاريخ الأدب العربى، وقد اعتمدت على المؤلف المغلوط، عند "طه حسين"، و"زكى مبارك" و"أحمد أمين"، و"فؤاد سزكين"، و"حمد الجاسر"، وكل رسائل وبحوث الشهادات العلمية فى الوطن العربى التى عنيت بتاريخ آداب اللغة، ومثل هذه المراجعات يجب أن يتم الإعلان عنها فور الوصول إليها، وهذا ما يدعو إلى إعادة إحياء المستلات الأدبية التى تعنى بمتابعة التراث العربى، والمخطوطات، متابعة إخبارية، مثل مجلة"المورد" العراقية، والتى توقفت، وان تخرج مجلتا مجمعي اللغة العربية فى القاهرة، ودمشق عن شكلهما التقليدى، وتدخلا عصر المطبوعات الحديثة المرفق بها كتب رقمية. |