الطائف وفظائع ابن بجاد     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
قال أمير البيان وفارس العرب شكيب أرسلان في الفصل الذي تحدث فيه عن الطائف بعنوان (عمران الطائف وتقلصه بعد الحرب) :
وقد كانت الطائف في أيام الدولة العثمانية معمورة حافلة، قيل لي إنَّه كان فيها ما يقرب من خمسة عشر ألف نسمة، فقد كانت إمارة مكَّة والولاية وقيادة الجيش والأجناد كلّها والدوائر الرسمية تنقل إلى الطائف وتقيم بها مدَّة 6 أشهر وكان بسبب ذلك يزداد توارد الخلق عليها من مكَّة وغيرها، وتعمر أسواق ويكثر الأخذ والعطاء فيها، وقيل لي إنَّه كان فيها 15 طبيباً بين ملكي وعسكري وكان كل ما يوجد بمكَّة يوجد فيها.
فبعد الحرب العالمية تقلَّص عمرانها، وخفَّ قطينها، حتى عادت كالعرجون القديم، فلم يبقَ فيها إلا نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف ساكن، وصارت أكثر البيوت خاوية على عروشها.
فتداعت من نفسها. ومن البيوت ما عملت فيه القنابر في أثناء حصار العرب للأتراك
فيها..
فهذه كانت المرحلة الأولى من مراحل بوارها.
وأمَّا المرحلة الثانية فقد كانت في حرب الوهابيين مع الملك حسين:
فقد زحف إليها سلطان بن بجاد شيخ عتيبة والشريف خالد بن لؤي وحاصراها بجمع كان يعجز عنها لو صادف فيها حامية مستبسلة موطنة نفسها على الكفاح لأنَّها مسوَّرة من كلِّ جهاتها، وقد كانت فيها مدافع وأعتاد كافية للمقاومة. فأوقع الله الوهن في قلب أمراء الحامية التي كانت من قبل الملك حسين، فانهزموا لا يلوون على شيء. ودخلت عتيبة وأولئك الأعراب الغلاظ الشداد ففتكوا بأهلها فتكة شنيعة ملأت شناعتها الخافقين، وقتلوا بضع مئات من الأهالي الوادعين، وانتهبوا البلدة وخرَّبوا ما قدروا على تخريبه.
وكان بين القتلى جماعة من العلماء والخواص، ومنهم ويا للأسف المرحوم السيد حسن الشيبي مبعوث الحجاز ونجل الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة بيت الله الحرام. وقد كان رحمه الله زميلي في مجلس المبعوثين في الآستانة وكان من ذوي الشهامة والأخلاق الزكية، وكانت بيننا مودَّة أكيدة.
فانتهز أعداء الملك ابن سعود في هذه الوقعة الفرصة للطعن فيه وحاولوا إيهام الناس أنَّه كان راضياً عن هذه الفعلة، وحاشى له من ذلك فإنَّها وقعت بدون أن يعلم بها وقبل أن يكون جاء إلى الحجاز، ولما نمي إليه خبرها بمكانه من نجد ارتمض جدّاً وأصدر الأمر تلو الأمر تحت الإنذار بالقتل بعدم التعرض لأحد من الأهالي وبالدخول إلى البلد الأمين بدون سلاح، فدخل الوهابيون مكَّة بدون سلاح، وطافوا واعتمروا ولم يمسُّوا أحداً بسوء ممَّا يشهد به كل أهل مكَّة.
فأمَّا فاجعة الطائف فقد سبق فيها السيف العذل، وبقيت في قلب الملك عبد العزيز منها حزازات على سلطان بن بجاد لم يثبطه عن عقابه على ما فعله في الطائف سوى حداثة عهده بالاستيلاء على الحجاز، والتربص ريثما تستتب الأحوال، فاكتفى الملك بادئ ذي بدء بتضميد جراحات أهل الطائف ومؤاساتهم، والتعويض عليهم، ولم يتعرَّض لسلطان بن بجاد بسوء رعياً لسابق عهده، حتى فتح هذا على نفسه الباب، وخرج هو وفيصل الدويش عن طاعة الملك وجاذباه الحبل، وظنَّا أنَّهما بقوة عشائرهما - عتيبة ومطير – ينالان منه وطراً، فحاجزهما الملك مدَّة شهرين حتى أعيته فيهما الحيلة، فلمَّا لم يبقَ من الدواء إلا الكي نهد إلى الثوار فمزَّق شملهم في أقلِّ من ساعتين، وطرح منهم بالعراء أكثر من ألفي صريع، وأخذ مقدميهم أسرى وبينهم ابن بجاد والدويش. فكان الذين فتكوا بأهالي الطائف الوداعين هم الذين لقوا هذا النكال الشديد، فنالوا الجزاء الذي يستحقُّونه على عملهم بالطائف، وسُقوا الكأس التي سقوا بمثلها، ولكنَّهم سَقوا ببغي وعدوان، وشربوا بتأديب سلطان وحكم فرقان، وقيد ابن بجاد بالأصفاد وكفى الله شرَّه.
ولكن الدويش بعد أن عالج طبيب الملك جراحه، فرَّ من الأسر ونكث وجمع جموعه وجموعاً ممَّن مالؤوه على بغيه، واستأنفوا الثورة، واضطروا الملك أيَّده الله أن يزحف إليهم مرَّة ثانية، ويصدع شملهم عوداً على بدء. وما زال يضيّق عليهم حتى تفرَّقوا تحت كل نجم، وجاء الدويش إلى العراق ظانّاً أنَّه ينجو وأنَّه لا يدركه ليل عمله الذي هو مدركه - إلا أنَّ الملك فيصل بن الحسين كان أعقل وأبصر بمصلحة مملكته العراق وبمصلحة العرب من أن يظاهر الخارجين عن طاعة ابن سعود، لاسيَّما أنَّهم هم الذين كانوا يوالون على العراق تلك الغارات التي لا نهاية لها. فانتهى الأمر بتسليم الإنكليز فيصلاً الدويش إلى الملك ابن سعود عملاً بمعاهدة سابقة في تسليم المجرمين - وصار إلى جانب رفيقه ابن بجاد بحيث لا يقدر أحد منهما بعد الآن أن يقلق راحة العرب ولا أن يهرج البلاد ويمرجها، وكانت هذه الواقعة سبباً في ائتلاف الملكين العاقلين الحكيمين، اللذين أقر اجتماعهما عيون جميع العرب المخلصين للعروبة، وفت في أعضاد الذين يريدونها دائمة حامية ولو أفضى ذلك إلى سقوط العرب. |