| اللغة فى رواية ثرثرة على النيل لنجيب محفوظ ظل نجيب محفوظ عبر مسيرته الروائية فى صراع دائم مع اللغة كما ذكر فى حواره مع الروائي حمال الغيطانى ولذلك تعددت المستويات اللغوية عند نجيب محفوظ بتعدد المراحل الفنية التى مرت بها مسيرتها الفنية ويمكن تصنيف مستوبات اللغة عنده على ثلاثة مستويات هى اللغة الملحمية التى تمزج بين لغة التراث ولغة التخاطب الحديثة فى المراحل الروائية الاولى التى كتب فيها (رادوبيس)واللغة الوصفية التسجيلية فى المرحلة الثانية والتى وصلت قمتها فى الثلاثية وزقاق المدق واللغة الايحائية التى يمتزج فيها السرد بتيار الوعى فى المرحلة الثالثة والتى كتب فيها رواية (ثرثرة على النيل ) وفى هذه الرواية يلفت النظر تفوق تجيب محفوظ فى التوظيف الجمالى للغة الذى يكاد يطابق بين النسق اللغوى والمدلول الفنى فى السياق الروائي فلم تعد البيئة والاحداث والشخصيات فى هذه الروايةمطلوبة لذاتها فقد صارت الشخصيات اقرب الى النموذج ولم تفرض البيئة تفاصيلها الشديدة مكا كان يحدث فى الروايات الاخرى وحلت اللغة بتوظيفها الجمالى والدلالى محل البطل والبيئة والاحداث مضمون الرواية تدور احداث الرواية فوق عوامة على النيل يجتمع فيها كل ليلة مجموعة من الاصدقاء رجالا ونساء فى مجلس الكيف ويتناقشون فى امور حياتهم وهموم مجتمعهم ثم يعود بعضهم الى منزله ويبقى واحد وهو انيس الذى يقيم بالعوامة وقد ينفرد بعض رواد العوامة ببعض الرائدات لتحقيق رغبته وافراد هذه المجموعة من اصحاب المهن والوظائف المختلفة فأنيس زكى بوزارة الصحة وهو رجل مثقف كان طالبا ريفيا جاء الى القاهرة والتحق بكلية الطب ولم يكمل دراسته واستطاع بواسطة احد الاساتذة فى الكلية ان يلتحق بالعمل فى وزارة الصحة ماتت زوجته وطفلته فى يوم واحد وقد اعتاد الادمان وتطلق عليه المحموعة لقب فارس الشلة وولى امرهم وهو يمثل صوت السارد الفنى فى الرواية فكثيرا ما يطلقه هذا السارد للتعليق على ما يدور حوله او التعبير عن الافكار والتأملات العميقة الناتجة عن تيار الوعى فى الرواية وبقية افراد المجموعة فهم احمد نصر مدير الحسابات ومصطفى راشد المحامى وعلى السيد الناقد الفنى وخالد عزوز كاتب القصة ورجب القاضى الممثل وسارة بهجت الصحفية وسناء الرشيدى بكلية الاداب وليلى زيدان المترجمة بالخارجية وسنية كامل الرائدة القديمة بالعوامة وصديقة على السيد وعم عبده حارس العوامة وخادم روادها وهذه المجموعة تجد فى العوامة مهربا من الهموم الخاصة والعامة وهى تتفق فى الثقافة والادمان والتسيب الخلقى والانغماس فى المتع بكل اشكالها ولم يجعلهم الراوى بمعزل عن الحياة العامة حولهم وانما كانوا جزءا منها فهم يتحدثون عن كوبا وفيتنام والرشوة والاشتراكية ومشاكل العمال والفلاحين والجمعيات التعاونية وغير ذلك مما يعترى الحياة العامة من حولهم من احداث عامة ولم يتبع الكاتب فى هذه الرواية اسلوب السرد او التداعى الحر ولم يترك شخصيات الرواية تفصح عن نفسها وتقدم نفسها من خلال تفاعلها مع الاحداث كما كان يفعل فى الروايات الاخرى وانما اتبع اسلوبا جديدا فى هذه الرواية وهو اسلوب الكشف عبر الوسيط الاخر فيدخل صوت اخر مع صوت السارد الرئيس وهو صوت سارة بهجت الصحفية والتى تهوى التأليف المسرحى فتقوم برسم شخصيات تلك الرواية فى مذكراتها التى تعتبرها مشروعا لعمل مسرحى تنوى كتابته وذلك تدعيما لتحويل شخصيات الرواية من مجرد شحصيات فردية الى شخصيات كونية تعبر عن وضع الانسان فى هذا الكون وحيرته امام اسراره وبخاصة فيما يتعلق منها بفلسفة الوجود وقضية الموت وكذلك نظرته الى الحياة نظرة فلسفية فالحياة تفقد معناها بالنسبة لهم ولاهدف لهم فيها وبذلك ينهار عندهم الايمان باية قيمة فى الحياة فيحل العبث محل الجدية فحين تقول سمارة بهجت الصحفية : الحق اننى اومن بالجدية فتنهال عليها الاسئلة اى جدية؟ الجدية لحساب اى شئ ؟ اليس من الجائز ان نؤمن بالعبث بجدية؟ والجدية تتضمن ان يكون للحياة معنى فما المعنى؟ وعلى اى اساس جديد نقيم المعنى؟ فتقول سمارة فى ايجاز :ارادة الحياة (الرواية ص 69) اللغة فى الرواية يلاحظ المدقق فى هذه الرواية انه ثمة تفاعل حى بين البنية الروائية ولاتى تظهر فى بيئة الشخصيات وثقافتها والنية اللغوية التى تظهر فى تلك التراكيب اللغوية الناتجة عن الشخصيات فاللغة هنا لا تمثل ملحما جماليا او وعائيا لافكار شخصيات الرواية وانما تمثل جزءا من التكوين النفسى لهذه الشخصيات فاذا كان المشهد الاساسى المتكرر لمجموعة العوامة هو عكوفها على تعاطى المخدرات فان السياق اللغوى الروائي يتوافق مع هذا المشهد فتكثر فى السرد مفردات اللغة الخاصة بهذا المشهد مثل مفردات الصنف /التموين /البلبعة /الكيف /الانسطال / العبارة /السلطنة / العرزة وغير ذلك بل المدش ايضا ان تتجاوز هذه المفردات سياق المفردة الواحدة الى سياق مجازى دال على هذه البيئة (الضاء المشطول وعين البنفسج الناعسة والقمر المرهق ويبدو ذلك فى قول انيس ذكى :التربيع الاولى المختفى يضفى على الظلمة ضياء مسطولا كعين البنفسج الناعسة اتذكر كيف كان البدر مرهقا فى ليالى الغارات ؟ (ص 79) واذا كنت لغة السرد عند محفوظ تتميز بشكل عام بانها تمتلك قدرة فاءقة على الوصف الشديد والاستغراق فى وصف التفاصيل الصغيرة الدالة الملتصقة بالبنية الروائية فان اللغة الصفية فى هذه الرواية تتجاوز هذا المعنى الى معن لغة الترميز الكاشفة عن البعد النفسى للشخصية ولم تعد لغة محايدة تعرض التفاصيل امام المتلقى وعلية ان يقيم هذه التفاصيل ومن ذلك موقف انيس من جذع الشحرة الذى اعترضه عند خروحه لاول مرة مفيقا من العوامة فاستوقفه هذا الجزع لضخامته فرفع عيتيه الى الغصون المنتسرة فى الهواء كقبة هائلة مغروسة الهامة فى سحابات الصباح الشفافة الدانية ثم رجع الى الجزع المعمر هابطا لاى جذور كالحة متفرعة عن اصله وضاربة فى ارض الطوار كأنما تنشب اظافرها متوترة غاصة التحدى والالم وهاك رقعة من اللحاء الخاجى قد تآكلت كاشفة عن طبقة من اللحاء الداخلى ذات لون باهت اصفر على هيئة بوابة قوطية استوت امامه بطول قامته داعية اياه للدخول (الرواية ص 160) ولاستغراق فى وصف هذا الجزع ينبغى الا يفهم على ظاهره بل حين نربطه بالسياق الروائي نكتشف انه يرمز الى فكرة سعى الانسان الى استلهام فلسفة الكون والوجود من كائنات الطبيعة الحية الاخرى وهى فلسفة جوهرها تحدى الالم واثبات الارادة ويدل على ذلك ان الكاتب جعل انيس زكى يفيق لاول مرة فى خروجه الى الشارع وكأنه يعى مايرى قاصدا وكذلك فان هذا الوصفهو مقابل مادى لحالة انيس زكى النفسية واحساسه الحاد بالعجز والضيق بالحياة ويبدو الاستغراق الوصفى فى الرواية اداة لبلورة افكار تيار الوعى التى يحملها وعى بطل الرواية انيس زكى ففى موقف اخر يستعرق الكاتب قى وصف النار على هذا النحو: حمل انيس المجمرة الى عتبة الشرفة بعان زودها بقطع من فحم تعرضت هناك لتيار الهواء وراح ينتظر اتسعت المراكز المحترقة فى شتى القطع حنى استحال سواد الفحم الى حمرة متوهجة هشة عميقة ناعمة واندلعت عشرات من الالسنة الصغيرة الموسومة بالشفق فانتشرت ثم تلاقت اجنحتها مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة الاطراف بزرقة خيالية ثم ازت فتطاير من جوفها سرب من عناقيد الشرر (الرواية ص 50) وهذه اللغة الوصفية ليست فى الاساس تلميحا الى كون هذه المجمرة جزءا من حياة انيس وانما هى هى كاشفة لشخيصة انيس النفسية وعالمة الداخلى الذى تتصارع فيه قوى الخير مع قوى الشر ويدل على ذلك قول انيس بعد الوصف السابق :انها اجمل من الوردة والاعشاب فى البحر فكيف امكن ان تطوى بين جوانحها اكبر قوة مدمرة؟(الرواية ص 50) والكاتب استطاع ان يواءم مواءمة فنية دقيقة بين التركيبة النفسية لشخصية بطل الرواية انيس زكى وبين المادة الاخبارية الصادرة عنه فى السرد الروائي مما حقق للرواية تناغما فنيا عحيبا بين اللغة المتحدث بها فى السرد وبين الشخصية المتحدث عنها وقد واءم ايضا بين الطابع الرمزى للرواية وبين الطابع الشعرى للغة السردية ويبدو الطابع الرمزى فى التكثيف والاحالة والغموض الفنى والتكنية وهى بذاته خصوصيات الطابع الشعرى للغة ولعل من اهم الاسباب التى ساعدت على صيغ لغة الرواية بهذه الصبغة الشعرية تداخل الازمنة وامتزاج الحلم بالواقع واستخدام لغة التداعيات باتساع امكانياتها التعبيرية والتصويرية مما يؤدى الى ابداع صورة فنية للغة فى الرواية وم جماليات اللغة ايضا فى هذه الرواية انها لم تقف عند حد القص والحكاية وبعثرة الاحداث بل تجاوزت ذلك الى بلورة افكار الشخصيات ودفع التفاعل والتبادل بين السرد والحوار ويبدو ذلك فى الجمل الخاطفة التى تاتى تعليقا على الحوار والتى تصنع نقابلة دلالية بين مضمون الحوار وبين مضمون الحملة المعقبة وهى مقابلة تشى بتنازع وعيين فى الرواية وهو تنازع قد يصل الى حد الضدية فخالد عزوز وسمارة بهجت يتناقشان فى المسرحية التى تنوى سارة كتابتها ويشير عليها خالد ان تجعلها مسرحية هزلية او مسرحية عبثسة فوضوية تعبر عن عالم ماهيته الفوضى ويختلفان فى الرأى ثم تاتى جملة (لا شئ هنا يدور بيقين ويعرف هدفه الا الجوزة) وهذه الحملة تصنع تقابلا معمصمون الحوار كالتقابل بين الابيض والاسود وكذلك حين هنأ عم عبده انيس زكى بالعيد لثالث او رباع مرة سأله انيس ماذا تعرف عن العيد؟ اجاب بانه اليوم الذى هاجر فيه النبى من الكفار ولعن الكفار فقال انيس :سوف يملأون هذا المجلس الذى تعده بعد قليل ويأتى احتشاد الموز اللغوية فى الرواية دافعا تيار الوعى الى البروز على سطع التكنيك الفنى للرواية والسطرة على البعد الفتى لنوظيف الحار الداخلى والخارحى فى الرواية ويظهر هذا الاحتشاد فى الهذيان تارة والكابوس تارة وفى كل هذه الصور تصبح تلك الرموز وسيلة لغاية واحدة هى التحذير من الهلاك فما خوف مجموعة العوامة من الحوت الذى يظهر لهم الا تعبير عن الخوف الدفين من الموت والنهاية وجاء هذا الخوف فى ثوب لغوى كاشف لفلسفة الموت عند هؤلاء واذا عرفنا ان شخصيات الرواية باستثناء عن عبده تنمتمى الى نمط الشخصية الثقفة التى تتقن الحوار والجدل فجاءت لغة الحوار بين الشخصيات لغة مراوغة تعتمد على الكنايات والتوريات والمشترك اللفظى ويبدو ذلك عندما تقول سمارة بهجت لانيس: -على اى حال فانت اطفهم جميعا -انا -لا يخرج من فمك سوء -ذلك اننى اخرس -ويجمع بيننا شئ واحد -ما هو؟ -الوحدة -المسطول لا يعرف الوحدة -لماذا لا تغازلنى؟ -المسطول الحق يتمتع باكتفاء ذاتى وهو يعنى بالكتفاء الذاتى هنا انصرافه الكامل الى الجوزة وكم كان بارعا فى اداء معنى هزلى بعبارة محكمة جادة البناء وكذلك رصد هذا الحار المرواغ الدال على ثقافة المتحاورين وعمق الوعى لديهما ومن هنا فاننا نجزم بان اللغة فى هذه الرواية هى التى لعبت دور البطل وان المتعة الحقيقية التى نخرج بها من قراءة الرواية قدرة اللغة السحرية على صنع مفارقة جمالية كاشفة عن الابعاد النفسة لشخصيات الرواية وقدرة على التطابق مع البيئة الروائية وتقلها من واقع مادى ممقوت الى واقع جمالى مبهر باعتبارها اداة الابداع الادبى الاولى فى الرواية |