كانت الحرب العراقية الايرانية قد أكلت الفريقين معا, وكثُرَ الفارون من الجيش. وكان أحد الجنود قد فرّ من الخدمة العسكريّة, فلاحقتهُ إحدى المفارز الامنية. فقرر أن يموتَ بطريقته, فقاومهم, فقتلوه. وبعد الدفن, ذهب رفاقه فى السّمر الى قبره فجلسوا حول القبر حلقا, ينوحون ويبكون وهم سكارى, ُيريقون الخمر على قبره! فكبست عليهم دوريّة أمنيّة وساقتهم الى السجن. أثناء التحقيق - والعهدة دائما على القائل- قال المحقق لاحدهم :
- ولك ملعون الوالدين تسكرون على كبر واحد هارب من (القادسية)!
-لا والله سيدى إحنه ما جايين على كبر هذا! الليل ظلمة وإحنا ما انشوف. جايين الى كبر
غيره واغلطنه! معقولة إحنه نبكى على كبر واحد ما يحب القادسيّة! آنى من هلكد ما احب
القادسيّة حفظت الفلم كلّه. خصوصا من يكول هذا أبو محكان!:
إذا متُّ خلّينى بكبر جنب كُربة يروى عظامى بعد موتى حميمها!
- ولك ملعون الوالدين راح إتشوف إشلون أراويك الحميم! تسكرون على كبر خائن!
من الجوامع المشتركة فى حياتنا العربية, المقاهى الكثيرة والمتعددة والتى يكاد لا يخلوا منها حى او زقاق او شارع. الجلوس فى المقهى إدمان عذب. مقهى الامس طبعا. لا أدرى ما الذى يجعلنا نعيش حاضرا يحنُ الى امسه! لماذا هذا الشغف والحنين الى كل ما هو غير حاضر! هل الحضور موحش للحدّ الذى يجعلنا نُصر على تغييبه لحساب ما نظنّه أكثر حضورا وألقا. عيوننا على الامس بإستمرار. هل كان الامس هو الاجمل ام ان العين تراه هكذا لقبح الحاضر! يُقال ان معظم ضحايا الماضى هم من روّاد المقاهى! كنّا نعتقد ان المقهى كانت فرصة لاثبات الرجولة فى أماكن آمنة! حتى كتب نزار قبانى (فى المقهى) ثم جاءت (الهوامش) فكانت مجرد عنتريّات!
كانت المقهى قد عرفتنى على رجل, فصادقته رغم فارق العمر بيننا آنذاك, رجل فى الخمسين من عمره, روعتُه فى بساطته, بدين, يلبس (الدشداشة) و(النعال ابو إصبع) لا يفارق قدمه. الكثير من العراقيين يلبسون- وما زالوا - هذا النوع من النعال. البعض قد تزدرى عينه (إنعال أبو إصبع). مع انه مذكور فى خطابات بعض الزعماء كإنجاز تأريخى لزعيم ملهم البس الشعب نعالا بعد ان كانوا حفاة! كما ان المتنبى ذكره فى شعره معتزا به. فقد جعله ناقة الى ممدوحه:
لا ناقتي تقبـل الـرديف ولا |
|
بالسوط يوم الرهانِ أجهدها |
شراكها كورهـا ومشفرهـا |
|
زمامها والشسوع مقودها |
أشدُّ عصفِ الريـاحِ يسبقـهُ |
|
تحتيّ مِنْ خطوبها تأيدها |
ويقف الواحدى شارح ديوان المتنبى وقفة ليست بالقصيرة ليصف هذا (النعل) التاريخى بقوله:
(يقول ناقتي لا تقبل الرديف وهو الذي يرتدف خلف الراكب وإذا راهنت عليها لم أجدها بالسوط. يقال جهدت الدابة وأجهدتها إذا طلبت أقصى ما عندها من السير واراد بالناقة نعله. فجعل خفه كالمركوب وهذا المعنى من قول أبي نواس:
إليك أبا العباس من بين من مشى عليها أمتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنينا على طلاً ولم تدر ما قرعُ الفنيقِ ولا الهنا
شراكها بمنزلة الكور للناقة وأراد بالمشفر ما يقع على ظهر الرجل في مقدم الشراك فجعل ذلك بمنزلة الزمام للناقة والشسوع السيور التي تكون بين خلال الأصابع جعلها بمنزلة المقود للناقة وهو الحبل الذي يقاد به سوى الزمام والزمام يكون في الانف)
كان هذا الرجل يُلازم بيته طيلة أيام الاسبوع بين كتبه وابحاثه فى التاريخ والادب والشعر وعلم الانساب. وكان يخصص بعض وقته فى يوم الجمعة للجلوس فى المقهى. كان أجمل ما يميّزه هو علمه بالانساب. ليته كان جاهلا بها!
فكم سلم الجهولُ من المنايا وعوجل بالحمام الفيلسوفُ
وقفَ مرة أمام شجرة, لم تكن هذه الشجرة من الاشجار المثمرة طبعا! تطلّع فيها مليّا ثم أخذنى من يدى مبتعدا عنها مسافة وقال:
- أكلك هاى غير شجرة! تعرف منو سوّاها
- نعم حجّى أعرف, فلان من آل... وفلان من آل...
- بس هاى شجرة عوده يابس! او ورقه أصغر! لا أصل لها ثابت ولا فرعها فى السماء!!
- مرّ الاسبوع وأنا أنتظر (الحجّى) لكن الحجّى لم يأت... اسبوعين ثلاثة اسابيع اربعة...
قلتُ لعلّنى أجده عند الشجرة! ذهبتُ الى الشجرة, لم أجدها! ولم أر الحجّى بعدها!! |