3- و لكي يسوق " كويلهو " مزاوجته ما بين الدين و السحر إلى تحققها الأقصى ، يورد رمزا تتحقق فيه المعضلة التي تبدو استحالتها للوهلة الأولى ألا و هو الدرع الذهبي الذي يرتديه الشيخ ( كان العجوز يلبس درعا من الذهب السميك المرصع كله بالأحجار الكريمة ... انتزع الشيخ من درعه حجرا أبيض و آخر أسود كانا في وسط الدرع و قدمهما للشاب قائلا : - خذ ، هذان الحجران يسميان يسميان " أوريم " و " توميم " ، الأسود يعني " نعم " و الأبيض يعني " لا " . عندما لا تصل أنت إلى الاستلال بالعلامات فسوف يفيدان ، و لكن اطرح عليهما دائما أسئلة محددة و اسع بوجه عام لأن تتخذ قراراتك بنفسك ) (10) . هنا مرة أخرى مزيج من اتباع العلامات و اتخاذ القرارات ، مزيج من السحر و الدين ، يحيلنا مباشرة إلى نظام العرافة الديني المزاول بواسطة كهنة اليهود عن طريق " درع هارون " ، ففي سفر الخروج نقرأ : ( و تصنع صدرة قضاء . صنعة حائك حاذق كصنعة الرداء تصنعها . من ذهب و أسمانجوني و أرجوان و قرمز و بوص مبروم تصنعها . تكون مربعة مثنية طولها شبر و عرضها شبر . و ترصع فيها ترصيع أحجار أربعة صفوف حجارة ز صف عقيق أحمر و ياقوت أصفر و زمرد الصف الأول . و الصف الثاني بهرمان و ياقوت أزرق و عقيق أبيض . و الصف الثالث عين الهر و يشم و جمشت . و الصف الرابع زبرجد و جزع و يشب . تكون مطوقة بذهب في ترصيعها . و تكون الحجارة على أسماء بني إسرائيل اثني عشر على أسمائهم . كنقش الخاتم على كل واحد على اسمه تكون للإثنى عشر سبطا . و تصنع على الصدرة سلاسل مجدولة صنعة الضفر من ذهب نقي . و تصنع على الصدرة حلقتين من ذهب . و تجعل الحلقتين على طرفي الصدرة . و تجعل ضفيرتي الذهب في الحلقتين على طرفي الصدرة . و تجعل طرفي الضفيرتين الآخرين في الطوقين . و تجعلهما على كتفي الرداء إلى قدامه . و تصنع حلقتين من ذهب و تضعهما على طرفي الصدرة على حاشيتها التي إلى جهة الرداء من داخل . و تصنع حلقتين من ذهب . و تجعلهما على كتفي الرداء من أسفل قدامه عند وصله من فوق زنار الرداء . و يربطون الصدرة بحلقتين إلى حلقتي الرداء بخيط من أسمانجوني لتكون على زنار الرداء . و لا تنزع الصدرة عن الرداء . فيحمل هرون أسماء بني إسرائيل في صدرة القضاء على قلبه عند دخوله إلى القدس للتذكار أمام الرب دائما ز و تجعل في صدرة القضاء الأوريم و التميم لتكون على قلب هرون عند دخوله أمام الرب . فيحمل هرون قضاء بني إسرائيل على قلبه أمام الرب دائما ) (11) . نحن هنا أما نفس " درع هارون " الذهبي بنفس ما يحتويه من حجري " أوريم " و " توميم " . ( و تعني كلمتي الأوريم و التميم ، الأنوار و الكمال ، إشارة إلى نور الله سبحانه و تعالى و كماله اللذين يتجليان في الإرشاد الإلهي حين القرعة ) (12) . و تجدر الإشارة إلى أن الربط الأدبي بين التحولات السيميائية و " درع هارون " في رائعة " ميلتون " [ الفردوس المفقود ] حين ينشد : ( فأما المعدن فيبدو بعضه من النضار و بعضه من اللجين الصافي / و أما الحجر فمعظمه من الزمرد أو الزبرجد / أو الياقوت أو الياقوت الأصفر و سائر الأحجار الإثنى عشر / التي سطعت / على درع ( هارون ) . و كان ثم حجر آخر / تخيله الناس كثيرا دون أن يروه في غير هذا المكان / إنه الحجر أو قل إنه يشبه الحجر الذي عبثا ما طلبه / الفلاسفة و طويلا ما بحثوا عنه على الأرض هنا / دون طائل رغم علومهم و قدرتهم على تقييد / الطيار ( هيرميس ) و فك قيود ( بروتيوس ) القديم و استحضاره / من السحر في شتى أشكاله / و تقطيره في الإمبيق حتى يعود صورته الأولى / و هل نعجب إذن إذا كانت الحقول و البقاع هنا / تخرج زفراتها إكسيرا صافيا و تجري الأنهار / بالذهب السائل إذا كانت لمسة مؤثرة واحدة / من الشمس رأس الكيمياء رغم بعدها الشاسع عنا / تختلط بمياه الأرض فتبدع / هنا في الظلمة كثيرا من الأشياء الثمينة ) (13) . و يبسط العلامة الدكتور " محمد عناني " القول فيما يخص " درع هارون " و علاقته بعلم المعادن القديمة بقوله : ( .. و قد وردت في الكتاب المقدس ترجمة درع هارون " صدرة القضاء " ( النص العربي ) و وردت في النصوص الإنجليزية بصور مختلفة منها " درع للفصل في الأمور " ، و " درع للحكم " و " درع لتحديد إرادة الله " ... أما الأحجار الكريمة المذكورة فهي جميعا ترتبط بالشمس في إطار النظرية السائدة آنذاك عن درجات المعادن و طبقاتها . و قد كانت لها دلالات صوفية نابعة من وجود الأحجار نفسها في بوابة أورشليم الجديدة ...... حجر الأوريم المذكور في سفر الخروج 28/30 و قد تخيله الناس كثيرا في غير هذا المكان لأنهم كانوا يقولون إنه هو نفسه حجر الفلاسفة . أما حجر التميم المذكور في نفس الآية فيقال إنه من الأحجار القمرية التي يمكن أن تحول المعادن إلى فضة ، بينما يستطيع حجر الأوريم في ظنهم تحويلها إلى ذهب لأنه شمسي ) (14) . هذان الحجران لعبا دورا هاما في تحولات الرحلة ذاتها حين سرقت أموال " سانتياجو " و كاد يعود أدراجه فمنعاه حين استشارهما ، كما كانا سبب توثيق علاقته بشاب إنجليزي مشتغل بالسيمياء حين شاهدهما معه و من ثم صار رفيقه إلى مصر موسعا من مدى رؤيته لحقائق العالم و تعدد مستويات الرؤية الخاصة بها .
4- هذا الإنجليزي يعكس ما سبق و أسلفته عن الخلفية الخاصة بممارسة السحر في تاريخ " كويلهو " الشخصي عن طريق علاقته بجماعة إنجليزية ، كما يحيل إلى تاريخ طويل اشتهرت به إنجلترا في علاقتها بعوالم السحر بداية من سحرة " السلت " وصولا إلى مجتمعات السحر الحديثة في المدن الإنجليزية . هذا فضلا عن هذا الشاب في سياق وصف " كويلهو " له يرسم بجلاء ملامح عامة من شخصية الكاتب نفسه ، خاصة في شغفه الجامح بعوالم الغيب و سعيه الملحاح للفهم : ( تركزت كل حياته و كل دراساته على البحث عن لغة واحدة يتكلمها العالم ، و في البدء انصب اهتمامه على لغة الاسبرانتو ثم على الأديان ، و انتهى به المطاف إلى السيمياء ... غير أن السيميائيين لا يفكرون إلا في أنفسهم و دائما ما يحجبون مساعدتهم . و من يدري ? لعلهم قد فشلوا في اكتشاف سر " العمل الكبير " ? أي حجر الفلاسفة ، و ربما يكون هذا هو سبب اعتزالهم ملتزمين الصمت ... اشترى أهم الأعمال عن السيمياء و أندرها ، و اكتشف في واحد منها أن سيميائيا عربيا شهيرا زار أوربا قبل عدة سنوات ، قيل إن عمره نيف على مائتي عام و إنه قد اكتشف حجر الفلاسفة و إكسير الحياة ) (15) . هذه الروح الحائرة الباحثة جاءت كخير ما تكون مراعاة لمقتضى الحال في تلك المرحلة من الرحلة التي تتعاور النفس خلالها شتى صنوف الوساوس و دعاوى النفس بالنكوص و التراجع .
5- يأتي ذلك في نفس الوقت مقترنا بتفعيل مفهومي " إكسير الحياة " و " حجر الفلاسفة " المذكورين آنفا في توقيت دقيق يطابق ذروة الفعل الاكتشافي و المعيد لترتيب ذرات الشخصية في آن ، مما يستلزم [ عملا كبيرا ] من شأنه توفير مناخ [ السر الأعظم ] الذي لا غنى عنه لنجاح عمل السيميائي . ( الإكسير هو أي عنصر وسيط كيميائي أو طبيعي يستطيع تحويل المعادن الدنيا إلى ذهب . و هذا ينطبق على حجر الفلاسفة ، و كان الكيميائيون يحاولون جادين التوصل إلى إكسير طول العمر أو ما أسموه بالذهب السائل ) (16) . ( و من البدهي أن العملية الكيميائية لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب لا يمكن أن تتم إلا بوسيط . و من هنا نشأ الاعتقاد في وجود حجر أطلق عليه حجر الفلاسفة يمكن بواسطة سحق جزء منه و إضافته إلى المعادن الرخيصة إجراء عملية التحويل ، هذا طبعا مع تلاوة بعض التعاويذ السحرية . و ربما ساعد على الاعتقاد بأن المصريين كانوا فعلا يقومون بعملية التحويل عن طريق حجر معين وجود الأحجار التي كان المصريون يقدسونها و هي ما كانوا يطلقون عليه اسم " كيفي " . و يقول " بلوتارك " أن الأحجار المقدسة كانت تتكون من عدة معادن : ذهب و فضة و شست و مافك [ حجران ، الأول أزرق و الثاني أخضر ] ) (17) .
و بعد ، لعل هذا العرض يكون قد أوفى بالغرض الذي هدفت إلى إثباته في مفتتح القول و الرامي إلى إثبات دور العناصر الطقسية السحرية في دفع عملية التطور في بناء الشخصيات و تدفق السرد في رواية " السيميائي " و في بيان مدى استفادة " باولو كويلهو " من التراث الغيبي في سياقات شديدة التعقد و التراكب من أجل تحقيق صياغة لها فرادتها و جاذبيتها .
و للحديث بقية .
ياسر منجي
القاهرة في 29/6/2005
Lucifer_yass@yahoo.com
10- المرجع السابق ، ص 37 .
11- خروج 28/ 15-30 .
12- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 344 .
13- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، ترجمه و قدم له و كتب حواشيه د.محمد عناني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 2002 ، ص 215 ، 216 .
14- المرجع السابق ، ص 723 .
15- باولو كويلهو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 64 .
16- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، مرجع سابق ، ص 723 .
17- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 476 ، 477 .
|