مجلس : عالم الكتب

 موضوع النقاش : من التراث العربي المحروق: الكتاب العزيزي للمهلبي    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )
 زهير 
6 - أكتوبر - 2005

بقلم الباحث الأستاذ تيسير خلف:

نشأ علم "المسالك والممالك" في أوج ازدهار الخلافة العباسية، على يد عدد من المصنفين وكتاب الدواوين الذين كانت تتجمع بين أيدهم معطيات كثيرة عن الطرق  والمسالك والخراج والواردات والنفقات، وأسماء المواضع. وكان فاتحة هذا العلم كتاب ابن خرداذبة "المسالك والممالك" الذي وضعه سنة 232 هجرية [846 م] بعد أن تولى البريد والأخبار في "بلاد الجبل" في عهد المعتمد العباسي.

وقد تطور هذا العلم إلى أن بلغ ذروته في العصر المملوكي بموسوعة "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749 هجرية [1338 م]، واختتم بكتاب "زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك" لخليل بن شاهين الظاهري المتوفى سنة 873 هجرية [1468 م]، الذي يعد آخر المصنفات العربية الإسلامية في هذا العلم. 

وبين كتاب ابن خرداذبة وكتاب الظاهري، ظهرت مؤلفات كثيرة تحمل الإسم نفسه، أي "المسالك والممالك" أو شيئاً قريباً من ذلك، مثل كتاب الجيهاني وابن حوقل والإصطخري والبكري وغيرهم.

ومن أبرز من وضعوا كتباً في علم "المسالك والمملك" مؤلف عاش في الحقبة الفاطمية يدعى الحسن بن أحمد المهلبي، الذي صنف كتاباً في هذا العلم للعزيز بالله الفاطمي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري سمي بالكتاب "العزيزي" وقد حظي هذا المصنَّف المهم بعناية واهتمام الكثير من المؤلفين العرب المسلمين الذين أتوا بعده، فوصفه ابن العديم مؤلف تاريخ "بغية الطلب في تاريخ حلب" والمتوفى سنة 660 هجرية [1262 م] بأنه "كتاب حسن في فنه، يوجد فيه مما لا يوجد في غيره من أخبار البلاد وفتوحها وخواصها". وقد نقل ابن العديم عن  المهلبي مقاطع مهمة تتعلق بحلب والثغور الشمالية قبل سقوطها نهائياً في يد البيزنطيين أواسط القرن الرابع الهجري. كما نقل ياقوت الحموي في معجم البلدان عن كتاب المهلبي أكثر من ثلاث وخمسين مرة، ونقل عنه أبو الفداء في تقويم البلدان 210 مرات.

ورغم ذلك سكتت كتب التراجم العربية عن هذا المؤلف الفذ، ولم يذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، ولا الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ولا الصفدي في "الوافي بالوفيات"، ولا ابن النديم في الفهرست. غير أن حاجي خليفة صاحب "كشف الظنون" قال فيه "المسالك والممالك المشهور بالعزيزي للحسين بن أحمد المهلبي المتوفى سنة 380 ألفه للعزيز بالله الفاطمي صاحب مصر ونسبه إلى اسمه"، وربما يرجع خطأ حاجي خليفة في تسميته بالحسين بدل الحسن إلى اعتماده على ياقوت الحموي الذي يخطئ أيضاً في الاسم أكثر من مرة.

ويشير الباباني في "هدية العارفين" للمهلبي عندما يقول: "الحسن بن أحمد المهلبي أبو الحسين توفي سنة 380 ثمانين وثلاثمائة صنف "المسالك والممالك" في التاريخ ألفه للمعز الفاطمي صاحب مصر ونسبه إليه بالعزيزي". ولكن الباباني ينسب الكتاب خطأ للمعز الفاطمي وليس العزيز.

ولا نعرف على ماذا اعتمد حاجي خليفة والباباني في تقدير أن وفاة المهلبي كانت في عام 380 هجرية [990 م]

وقد تجاوزه المستشرقون الغربيون الذين درسوا التراث الجغرافي العربي، باستثناء المستشرق الروسي إغناتي يوليانوفيتش كراتشكوفسكي  صاحب "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، الذي أشار إليه بأسطر قليلة عندما تحدث عن اقتباسات ياقوت الحموي منه وإيلائه عناية خاصة له بين مصادره.  والمستشرق آدم ميتز صاحب كتاب "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع" (الهجري)، الذي قال "إن لكتاب المهلبي مزية، هي أنه أول كتاب وصف بلاد السودان وصفاً دقيقاً، وكان علماء الجغرافيا في القرن الرابع  لا يعرفون من أخبار السودان شيئاً".

ومن الله علي أنا ( تيسير خلف) بجمع شتات الكتاب من مختلف المصادر المتوفرة مثل "تقويم البلدان" لأبي الفداء، و"معجم البلدان" لياقوت، و"بغية الطلب" لابن العديم، ومخطوطة مكتبة الأمبروزيانا الإيطالية التي حوت عدداً من صفحات الكتاب المخطوطة التي تتضمن وصف بيت المقدس ووصف دمشق وذكر لولاة مصر.

أول مايلفت النظر في ما وصلنا من كتاب المهلبي أنه يتبنى وجهة نظر شيعية حيال الواقع والتاريخ، وذلك ما نلمسه من خلال تعليقاته على بعض القضايا والأحداث التي يمر بها.

فتجده يفسر سقوط الثغور الشمالية أي طرسوس والمصيصة وغيرها، بوصول قوم من الخوز والعجم إلى هذه البلاد ومجاهرتهم بالنصب أي شتم آل البيت. فيقول تعليقاً على سقوط هذه الثغور "فأخذهم الله اخذ عزيز مقتدر"، محاولاً تصوير الأمر وكأنه انتقام إلهي.

كما نلمس تبنيه لروايات شيعية حول بني أمية حيث يذكر أن الوليد بن عبد الملك اصطبح في الجامع الأموي بين قيانه أربعين يوماً، وقال: أخذت صفوه وتركت للناس كدره. كما أنه يشير إلى محاولة الوليد صرف أبناء الشام عن الحج إلى البيت الحرام ببنائه حرماً في القدس لكي لا يذهبوا إلى الحجاز ويعرفوا فضل آل البيت على بني أمية. ولا غرابة في ذلك ففي عصر المهلبي كان الشيعة يشكلون غالبية أهل الشام، وكانت العائلات الشيعية تحكم معظم أجزائه بدءا بالحمدانيين في حلب والثغور، ثم بني مرداس الكلابيين في نواحي حلب أيضاً، وبنو منقذ في شيزر والجندالة في البقاع ووادي التيم. ناهيك عن وجود معاقل شيعية كبرى مثل مدينة حلب وطبرية وماحولهما.

وقد أدى دخول السلاجقة الترك وبعدهم الأيوبيين الكرد، في فترة الحروب الصليبية وهم من السنّة، إلى تراجع النفوذ الشيعي في بلاد الشام بشكل متدرج، إلى أن تم إقصاؤه نهائياً في النصف الثاني من العصر الملوكي أو مايسمى دولة "الشراكسة" والذي شهد جموداً فكرياً غير مسبوق، وهو ما يجعلنا نعتقد بأن ذلك العصر تحديداً شهد إحراق الكتاب.

ورغم أن القلقشندي الذي عاش في الجزء الثاني من الفترة المملوكية نقل عنه أكثر من مائة مرة في "صبح الأعشى"، إلا أن مراجعتنا لتلك المنقولات جعلتنا نتأكد أنه أخذها من أبي الفداء وليس من المصدر. كما يمكن القول إن اقتباس عز الدين ابن شداد لمقطع حول مدينة حلب من المهلبي كان عن طريق ابن العديم وليس من المصدر. و يتضح ضيق ابن شداد المتوفى سنة 684 هجرية [1285 م] مما ورد في كتاب المهلبي عندما استنكر بعض ما ذكر عن حلب قائلاً في نهاية اقتباسه: "وذكر كلاماً كثيراً لا يليق بما نحن بصدده فأضربنا عنه".

ومن اللافت للنظر أن أبا الفداء عندما نقل قصة بناء الوليد بن عبد الملك للقبة في بيت المقدس قال: والعهد عليه في ذلك" أي أنه لم يصدر حكم قيمة عليه بل ذكر أنه لم يعثر على هذه الرواية في مصدر آخر ولذلك أشار تلك الإشارة. كما أن ابن العديم أشاد في كتابه بالمهلبي وقال عنه إنه رجل فاضل كان متصلاً بالعزيز الفاطمي.

لقد سعينا من خلال إعادة جمع هذا الكتاب من شتات الكنب والمخطوطات وترتيبه وتحقيقه، إلى إضاءة جانب مهم وأساس من جوانب الثقافة العربية الإسلامية، بعد قرون من محاولات تأطيرها في نمط فكري محدد، أو ضمن لون واحد لا يرى الآخر ولا يعترف باختلافه، بل يلجأ إلى تكفيره واختزاله وقولبته في أنماط فكرية ومقولات جاهزة.

ولنا في قول أبي الفداء: "والعهد عليه في ذلك" أي الرواية على ذمة الراوي، خير منهج في التعاطي مع الرواية المخالفة، أو تلك التي لا تتفق مع توجهاتنا، ذلك المنهج الذي غاب منذ نحو سبعة قرون فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.

ويتضح لنا من خلال ما وصلنا من كتاب "المسالك والممالك" أن المهلبي رحالة لا يشق له غبار، وصل إلى أقاليم لم يسبقه أحد إليها وخصوصاً في بلاد السودان، كما أنه يتحدث عن المسافات والطرق حديث العارف والمجرب وهو ما انتبه إليه أبو الفداء وأشار له أكثر من مرة.

وتتصف معلومات المهلبي بدقتها بالنسبة للمسافات بين المدن والأقاليم، وجدتها حيث يبدو مصدراً وحيداً لبعض المواضع، وسعتها حيث يذكر مصدر شرب أهلها وبعض عاداتهم وأحوالهم و زروعهم.

ولعل ما يثير الدهشة تلك الأرقام التي يسوقها عند حديثه عن نفقات طرسوس على تأمين حمايتها قبيل سقوطها بيد البيزنطيين بقيادة نقفور فوكاس عام 354 هجرية [965 ميلادية].

ومن خلال وصف المهلبي نستطيع أن نكوّن فكرة شبه كاملة عن التاريخ الاجتماعي والتركيبة السكانية للثغور الإسلامية الشمالية قبيل سقوطها، وربما العوامل التي أدت إلى هذا السقوط.

كما أن الكتاب يحفل بمعلومات جديدة حول دمشق وبيت المقدس وحلب وأنطاكية وغيرها من المدن التي وصلتنا مقاطع مسهبة عنها، وهو ما يؤشر إلى غنىً وسعة معلوماتٍ، لم يغيبا عن ابن العديم، الذي نوه إلى إن فيه ما لا يوجد في غيره.

ومن الإشارات المهمة حديثه في مادة  بصرى عن قلعتها التي شبهها بقلعة دمشق، وهي إشارة من شأنها أن تضيء جانباً من تاريخ قلعة دمشق، التي يقال إن السلاجقة هم الذين بنوها، علماً أن المهلبي زار دمشق قبل  دخول السلاجقة إليها بنحو قرن.

كما أن إشارته لوجود كنيسة مقابلة للمسجد الأقصى من جهة المحراب بحيث تتصل أروقتها بأروقة المسجد، تعدّ على غاية من الأهمية بالنسبة إلى وضع المساجد والكنائس في بيت المقدس قبل الحروب الصليبية وما تلاها من عمليات هدم وإعادة بناء طالت كل شيء تقريباً.

ومن الواضح أن المهلبي أراد لكتابه أن يكون جديداً في كل شيء، فلم ينقل عن غيره من المصنفين العرب الذين سبقوه في هذا العلم، ولم يشر إلى أي مصدر، كما أن الدراسة المقارنة للنصوص تجعلنا نجزم بأن معلوماته أصيلة حققها بنفسه، ومصدرها تجربة شخصية وبحث ميداني. ومن هنا أتت أهمية هذا الكتاب، ولذلك نقل عنه مؤلفون رصينون مثل ابن العديم وياقوت الحموي و أبو الفداء.

  



*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
كلمة شكر    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

يشكر موقع الوراق الأستاذ الباحث تيسير خلف حفظه الله على هذه المشاركة الكريمة، ونتمنى المزيد من هذه المشاركات القيمة، وكنت أنا زهير قد سألت الأستاذ تيسير خلف أن يرسل لنا بتعريف عن (الكتاب العزيزي) إثر رسالة بعث بها إلي بريدي الخاص، ينبهني فيها على أخطاء وردت في أصل رحلة بنيامين التطيلي التي نشرت خلاصتها في نوادر النصوص، فقمت على الفور بنشر ملاحظاته في ذيل النص فانظرها هناك. ثم جرت بيننا مراسلات عدة، اخترت أن أثبت هنا هذا الجواب:

الأخ زهير ظاظا المحترم: شكراً على هذا الاهتمام بردي، اسمي تيسير خلف، اعمل كاتباً

ولي من المؤلفات:

مجموعة قصصية (قطط أخرى 1993) وروايتان الأولى دفاتر الكتف المائلة (1996) والثانية عجوز البحيرة (2004).

كتاب السينما الفلسطينية الجديدة 1995

دليل الفيلم الفلسطيني 2001.

أبحاث تراثية

1- صورة الجولان في التراث الجغرافي العربي الاسلامي -دار قدمس - دمشق 2004.

2- الجولان في مصادر التأريخ العربي دار كنعان دمشق 2005.

3- جمع وتحقيق المكتاب العزيزي في المسالك والممالك للحسن بن أحمد المهلبي وهو كتاب مفقود منذ العصر المملوكي. دار التكوين دمشق 2005.

4- استكشاف الجولان وهو كتاب عن رحلات المستكشفين الغربيين في الجولان خلال القرن التاسع عشر واتفقت على نشره مع دار المدى 2006.

وكما ترى أخي زهير فأنا مهتم بالتراث الاسلامي ولدي أفكار كثيرة لمشارع قادمة ستنشر في وقتها بإذن الله.

ولدي كما أعتقد خبرة لا بأس بها في الطبوغرافيا التاريخية وخصوصاً الأسماء القديمة وما يقابلها في العصر الحديث وخصوصاً في بلاد الشام.

اخوكم تيسير خلف



 

*زهير
6 - أكتوبر - 2005

 
   أضف تعليقك