البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم : التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
شاهد التعليقات الأخرى حول هذا الموضوع
أضف تعليقك
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
العقل في المنظومة الدينية - 1    كن أول من يقيّم
 
مساء الخير...وكل عيد وأنتم بألف خير...
يبدو أن ملف الفلسفة والدين سيجعلنا نتحرك على في فضاء غير محدود...وقد اغتنى كثيرا باقتباسات الأخت ضياء والأخ عبدالحفيظ...فالشكر موصول لكما ..في انتظار المزيد. سأطل عليكم بهذه المقالة كاستئناف للمقالات السابقة...
 
لقد تمكنت المنظومة الفلسفية ـ تاريخيا ـ من أن تؤسس لنفسها إطارها المرجعي الخاص والذي يحدد نمط تفكيرها ورؤيتها للوجود وتصورها للعقل والمعرفة. وهي العناصر التي تناولناها في المقالات السابقة. وبقي علينا ـ في الجزء الثاني من مقالاتنا ـ أن نتحدث عن ما يميز المنظومة الدينية حتى يتسنى لنا ـ موضوعيا ـ وضع نوع من المقارنة بين الفلسفة والدين، من حيث الرؤية والمنهج والغاية...
وسوف نستعيد هنا بعض ما كتبناه في هذا المجلس ـ خاصة في الموضوع الذي اقترحه الأخ النويهي ـ والذي نرى أنه يستجيب لما نهدف إليه هاهنا.
تتحدد المنظومة الدينية بمجموع النصوص والمعارف والعلوم التي تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية بوجه خاص، باعتبارها ثقافة تقوم أساسا على مركزية النص الديني (حول اعتبار الحضارة العربية الإسلامية حضارة نص، انظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، 1990، ص.9- 10. وكذلك: حسن حنفي، التراث و التجديد، المركز العربي للبحث  و النشر، القاهرة، 1980، ص.177 – 178)، وباعتبارها تشكل كذلك الإطار الحضاري الذي شكل بنية العقل العربي الإسلامي المنتج لتلك الثقافة.
إذ رغم التأثيرات الخارجية التي خضع لها مفكرو الإسلام، والمتمثلة في الفلسفة اليونانية والموروث الفارسي والهيلينستي، ورغم الاختلاف المذهبي الموجود بين هؤلاء، بين السنة والشيعة، المعتزلة والأشاعرة، الفلاسفة والمتصوفة ...إلخ، يمكن القول بأن قراءة مفكري الإسلام للنص الديني صدرت عن عقل واحد، هو العقل العربي الإسلامي الذي يخترق كل تلك "العقول" بحكم وجود عناصر وخصائص مشتركة بينها: فهي عقول لا تمارس فعاليتها إلا في إطار المعرفة التي يفرضها الوحي القرآني باعتباره نصا متعاليا، كما أنها عقول تعتبر المجتهدين من السلف سلطة عليا مهابة ومرجعا للاتباع، ثم إنها عقول تفكر بآليات ذهنية تنتمي إلى الفضاء العقلي القروسطي( محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن، 1990،  ص.236-237..) وانطلاقا من وحدة العقل هذه وتبعيتها لسلطة النص والسلف نفترض أن بين العقل القارئ والنص المقروء ثوابت إبيستمولوجية واضحة.
من أهم هذه الثوابت التصور الديني للعقل كمصدر للمعرفة (وهي مناسبة جزئية للمقارنة بين ما كتبناه سابقا وما نكتبه اللحظة)
إن الحقل التداولي العربي يحدد معاني العقل في القيد والربط والحبس والإمساك والتمييز. وهي معاني يمكن حصرها في ثلاثة أفعال عقلية: الكف والضبط والربط (طه عبدالرحمن ، العمل الديني وتجديد العقل، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1989، ص. 33- 34.) والتي نعتبرها الأنشطة العقلية الأساسية الدالة على الممارسة الذهنية في مرجعيتنا الدينية.
يحيل فعل الكف، أي المنع، على بعد أخلاقي لوظيفة القلب باعتباره وازعا أخلاقيا يعقل ويحبس ويكف صاحبه عن التورط في المهالك، فيكون «العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها ... والعقل : التثبت في الأمور ... وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه» (لسان العرب). وهو معنى يعطي للعقل بعدا معياريا قيميا يخص الممارسة العملية الأخلاقية. مما يسمح بالقول بأن الكف فعل عقلي يشير إلى مهارات الضبط النفسي والتدبير الأخلاقي، وهي مهارات تتعلق بالجانب العاطفي الوجداني في القلب.
 أما فعل الضبط، أي إمساك الشيء حتى لا ينفلت، فيحيل على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره ملكة حفظ، وقوة تذكر واستظهار( وبهذا المعنى وردت الآية:) يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( (البقرة:75))، وفي الاصطلاح «الضبط هو إسماع الكلام كما يحق سماعه، ثم فهم معناه الذي أريد به، ثم حفظه ببذل مجهوده والثبات عليه بمذاكرته إلى حين أدائه إلى غيره» (الجرجاني،كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ص.137.). وواضح أن الضبط  هنا يشير إلى نشاط عقلي يتمثل في مهارات إسماع الخطاب وفهمه وحفظه واستظهاره.
أما فعل الربط، أي إدراك العلاقة بين قضيتين، فيحيل أيضا على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره قوة إدراك وتأمل وفهم ونظر وتدبر في الكون () أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها... ( (الحج: 46)). وفي التاريخ وماضي الأمم ()وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( (ق:  36 ـ37)) وفي النص الديني ()أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( (محمد: 24)). ومن الواضح أن فعل الربط هنا نشاط ذهني يتمثل في مهارات الاستدلال والقياس.
 ويبدو أن العلاقة بين هذه الأفعال العقلية الثلاث ( الكف والضبط والربط) علاقة تفاعل وتكامل؛ ذلك أن اللغة العربية تضفي على فعلي الضبط والربط معاني وجدانية كالحزم وشد النفس ورباطة الجأش ووثوق القلب (ورد في (لسان العرب) حول مادة / ض ب ط/:(رجل ضابط أي حازم... ورجل أضبط: يعمل بيديه جميعا...والضابط : القوي في عمله...ويقال: فلان لا يضبط عمله إذا عجز عن ولاية ما وليه). وحول مادة / ر ب ط/: ( يربط نفسه عن الدنيا أي يشدها ويمنعها...ورجل رابط الجأش أي شديد القلب...وربط جأشه رباطة: اشتد قلبه ووثق وحزم فلم يفر عند الروع...))
ولذلك فـمفهوم «العقل  في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوما بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة» (محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984  ص. 31.)
والمبدأ الذي يحدد وحدة التفاعل بين الفكر والوجدان، بين العلم والعمل ـ في الحقل التداولي العربي الإسلامي ـ  مبدأ ديني بالدرجة الأولى. فإذا كانت معاني العقل دنيوية في دلالاتها اللغوية فإن القرآن «أضفى على تلك المعاني غائية الدين التي تحول القصد من التجربة والفهم إلى تدبر الخلق والاعتبار به للتعرف على الخالق وتعظيمه، وتحول القصد من حسن الخُلق إلى نفع الخلْق ونيل مرضاة الخالق» (محمد مصطفى عزام، «مصطلح العقل بين الفلسفة والتصوف»، في المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (الرباط) ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1995، ص. 24.)...وهي غائية تتجلى في مظاهر عديدة ستكون موضع المقال المقبل.
وحيد
8 - أكتوبر - 2008
أضف تعليقك