مقالة رقم-2- كن أول من يقيّم
بسم الله الرحمن الرحيم منذ ثمانمائة عام خلت، كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي t في شرح بعض الأحاديث النبوية معاني لم يسبق إليها في أيامه، وعندما قرأها المتأخرون وجدوا فيها إشارات والالتفاتات يجدر بالعاقل أن يتأملها ويستفيد منها، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وإذا كان بعض الشراح المعاصرين قد استفادوا من نظرات الشيخ السابقة لهم، فمن حقه عليهم أن يشيروا إلى المصدر الذي نقلوا عنه منه، مع أنني أقبل أن يكون المتأخر قد عرف ذلك دون الأخذ عمن سبقه، غير أنني أحب أن أعترف للمتقدم بالأسبقية على الأقل. وقد سبق أن كتبت المقالة رقم -1- وأقدم اليوم المقالة رقم/2/: ينقل الشيخ محمود محمود الغراب من أقوال الشيخ محي الدين ابن العربي في معرض الحديث التالي ما يلي: قال رسول الله r: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". (أخرجه: أحمد بلفظ صالح الأخلاق، ومالك بلفظ حسن الأخلاق). ف ج2/363، 424، 562، 616، 617- ج4/17، 178، 459 إن مكارم الأخـلاق أعمال وأحوال إضافية، لأن الناس الذين هم محل مكارم الأخلاق على حالتين: حر وعبد، كما أن الأخلاق محمودة وهي التي تسمى مكارم الأخلاق، ومذمومة وهي التي تسمى سفساف الأخلاق، والذين تصرف معهم مكارم الأخلاق وسفسافها، اثنان وواحد، فالواحد هو الله، والاثنان نفسك إذا جعلتها منك بمنـزلة الأجنبي، وغيرك، وهو كل ما سوى الله، وكل ما سوى الله على قسمين ـ وأنت داخل فيهم ـ: عنصري وغير عنصري، فالعنصري تصريف الخلق معه حسي، وغير العنصري تصريف الخلق معه معنوي، والأعمال المعبر عنها بالأخلاق على قسمين: صالح وهو مكارمها، وغير صالح وهو سفسافها، وجميع مذام الأخلاق وسفسافها صفات مخزية عند الله وفي العرف، وجميع مكارم الأخلاق صفات شريفة في حق وخلق، ألا ترى إلى قول رسول الله r: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، يريد أنه يعلم ما هي، وكيف تصرف، وأين تصرف، ولتعلم أن المخاطبين بالأخلاق حر وعبد، فللعبد منها شرب، وللحر منها شرب، فإذا أضفت الخَلْقَ إلى الله تعالى، فكل ما سوى الله عبد لله، قال تعالى: ﴿إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً﴾ وإذا أضفت الخَلْقَ بعضه إلى بعض، فهو بين حر وعبد، فأما حظ العبد من الأخلاق، فاعلم أن السيد على الإطلاق قد أوجب وحرم، وأمر ونهى، وقد أباح فخير، وقد رجح فندب وكره، وما ثَمَّ قسم سادس، فكل عمل يتعلق به الوجوب من أمر من السيد الذي هو الله بعمل أو ندب إلى عمل، فإن العمل به من مكارم الأخلاق مع الله ومع نفسك إن كان واجباً، وإن كان مندوباً إليه فهو من مكارم الأخلاق مع نفسك، فإن تضمن منفعة الغير ذلك العمل كان أيضاً من مكارم الأخلاق مع غيرك، وترك هذا العمل إن كان على هذا الحكم من سفساف الأخلاق، وكل عمل يتعلق به التحريم أو الكراهة فالتقسيم فيه كالتقسيم في الواجب والمندوب إليه على ذلك الحد، فترك ذلك العمل لاتصافه بالتحريم أو الكراهة من مكارم الأخلاق، وعمله من سفساف الأخلاق، وترك العمل فيه عمل روحاني لا جسماني، لأنه ترك لا وجود له في العين، وأما العمل الذي تعلق به التخيير وهو المباح، فعمله من مكارم الأخلاق مع نفسك دنيا لا آخرة، فإن اقترن مع العمل كونك عملته لكونه مباحاً مشروعاً، كان من مكارم الأخلاق مع الله ومع نفسك دنيا وآخرة، وكذلك حكمه في ترك المباح على هذا التقسيم سواء، فجميع الأقسام تتعلق بالعبد، وقسم المباح يتعلق بالحر، وقسم المكروه والمندوب إليه يتعلق بالحر وفيه من روائح العبودية شمة لا حقيقة، والشرع قد بين لك مكارم الأخلاق، فعليك بحسن الأخلاق وإتيان مكارمها وتجنب سفسافها، وقد ضمن r بيتاً في أعلى الجنة لمن حسن خلقه، ولما كان من المحال أن يقوم الإنسان في خلق كريم يرضي جميع الخلائق، فإن أغراض الخَلْق متقابلة، إن أرضى زيداً أسخط عدوه عمراً، لابد من ذلك، فلما رأينا الأمر على هذا الحد، قلنا لا نصرف مكارم الأخلاق إلا في صحبة الله خاصة، فكل ما يرضي الله نأتيه، وكل مالا يرضيه نجتنبه، وسواء كانت المعاملة والخلق مما يخص جانب الحق أو تتعدى إلى الغير، وإنها وإن تعدت إلى الغير فإنها مما يرضي الله، وسواء عندك سخط ذلك الغير أو رضي، فإنه إن كان مؤمناً رضي بما يرضي الله، وإن كان عدواً لله فلا اعتبار له، فحسن الخلق إنما هو فيما يرضي الله، فلا تصرفه إلا مع الله، سواء كان ذلك في الخلق أو فيما يختص بجناب الله. تحقيق: معنى قوله r: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، أنه لما قسمت الأخلاق إلى مكارم وإلى سفساف، وظهرت مكارم الأخلاق كلها في الشرائع على الأنبياء والرسل، وتبين سفسافها من مكارمها عند الجميع، وما في العالم على ما يقوم عليه الدليل والمعرفة إلا أخلاق الله، فكلها مكارم، فما ثَمَّ سفساف أخلاق، فبعث r بالكلمة الجامعة إلى الناس كافة، وأوتي جوامع الكلم، وكل نبي تقدمه على شرع خاص، فأخبر r أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فإنه نقص منها المسمى سفسافاً، فعين لها مصارف فعادت مكارم أخلاق، لأنها أخلاق الله، فألحق ما قيل فيه إنه سفساف بمكارم الأخلاق، فصار الكل مكارم أخلاق فما ترك r في العالم سفساف أخلاق جملة واحدة لمن عرف مقاصد الشرع، فأبان لنا مصرفاً لهذا المسمى سفساف أخلاق، من حرص وحسد وشره وبخل وفزع وكل صفة مذمومة، فأعطانا لها مصارف إذا أجريناها على تلك المصارف عادت مكارم أخلاق، وزال عنها اسم الذم وكانت محمودة، إذا اتصف بها العبد في المواطن المعينة لها، لم يلحقه خزي ولا كان ذا صفة مخزية، فما ثَمَّ إلا خلق كريم مهما زال حكم الغرض النفسي، المخالف للأمر الإلهي والحد الزماني النبوي، فتمم الله به r مكارم الأخلاق، وبه كان خاتماً، وهذا من حضرة الاسم الجامع، فتتمة مكارم الأخلاق هي تعريتها مما نسب إليها من السفسفة، فإن سفساف الأخلاق أمر عرضي، ومكارم الأخلاق أمر ذاتي، لأن السفساف ليس له مستند إلهي، فهي نسبة عرضية، مبناها الأغراض النفسية، ومكارم الأخلاق لها مستند إلهي وهو الأخلاق الإلهية، فتتمة النبي r مكارم الأخلاق ظهر في تبيينه مصارفها، فعين لها مصارف تكون بها مكارم أخلاق وتعرى بذلك عن ملابس سفساف الأخلاق. ومن كان على مكارم أخلاق فهو على شرع من ربه وإن لم يعلم ذلك، ومكارم الأخلاق معلومة عقلاً وشرعاً وعرفاً، والتصرف بها وفيها معلوم شرعاً، فمن اتصف بها على الوجه المشروع وزاد تتميم مكارم الأخلاق وهو إلحاق سفسافها بها، فتكون كلها مكارم أخلاق بالتصرف المشروع والمعقول، فقد اتصف بكل ثناء إلهي. من كتاب الحديث في شرح لحديث – ج2/91 محمد فريد الكيال: mfariiid@maktoo.com |