- من خلال مطالعتي للمجالس عرفت أن إيقاع بحر المنسرح* ما زال عند بعض الإخوة - كما كان عندي من قبل - غامضًا ، ولكني منذ مدة بدأت أتذوقه ، حتى ثبتت نغمته أمسِ في ذهني تمامًا ، فنظمت عليه مباشرة في غضون دقائق عدة أبيات ، ولم يقع فيها أي خلل في الوزن ، ونغمته حسنةٌ مستعذبةٌ ، ولكن ليس لدي من العلم بالموسيقا ما أوضح به للإخوة إيقاعه ، ولكن أقول على سبيل التقريب : إن الاهتداء إلى إيقاعه يتأتَّى بأن يُنْطَقَ ببداية الشطر في شيء من الاختلاس والسرعة ، ثم بالتأني والتمهل فيما بقي ، وكان مما لاحظته في الأبيات التي نظمتها أني لم آتِ بـ : (( مفعولات )) إلا مطويةً ، وعندما أردت أن آتيَ بها غيرَ مزاحفة وجدت شيئًا من العذوبة قد اختفى ، ومما زادني اطمئنانًا إلى صحة هذا الشعور أني قرأت قصيدة المتنبي : (( أهلاً بدارٍ سباك أغيدها )) = فلم ترد فيها (( مفعولات )) سوى مطويةٍ .
- وكان اهتدائي إلى إيقاع المنسرح السببَ في اهتدائي إلى إيقاع مخلع البسيط ، فهما متقاربان في الإيقاع إلى غايةٍ ؛ لأنهما متقاربان في التفعيلات ، فنحن عندما نطوي (( مفعولات )) في المنسرح - وهو الأَوْلى كما سبق - = نجده يتفق مع مخلع البسيط في : [ /5/5//5/5//5//5 ] ، ويزيد المنسرح على هذا الجزء المتفق عليه بفاصلة صغرى** : [ ///5 ] ، ويزيد مخلع البسيط بسبب خفيف : [ /5 ] ، فقول الشيخ / جلال حنفي - كما نقله عنه الأستاذ / زهير - أَنَّ مخلع البسيط مستخرج من المنسرح = وجيهٌ .
- وبمناسبة الوزن الذي سماه الأستاذ / زهير : مخلع الوافر ؛ فقد قرأت قصيدة : (( نداء الخريف )) لسيد قطب ، فاستغربت وزنها ، ثم رجحت بعد التأمل أن نسميه : مشطور الوافر [ الصحيحِ الغيرِ*** المقطوفِ ] ، وعلى حسب اطلاعي لم يذكر العروضيون القدامى هذا الضرب من الوافر ، وربما ذكره بعض المعاصرين ، ومن هذه القصيدة قوله :-
[ تعالي أوشكت أيامنا تنفدْ
تعالي أوشكت أنفاسنا تبردْ
بلا أمل ولا لقيا ولا موعدْ ]
- وأحببت الاستفسار عن مسألة وهي : أن الباجوري في (( تحفة المريد )) يعلل إيطاآت اللقاني في (( الجوهرة )) بأن المنظومة من تام الرجز لا مشطوره ، وهو يشير إلى : أن الإيطاء إنما يكون بين قوافي القصيدة لا بين الكلمتين الأخيرتين من شطري البيت ، فعندما نجعل المنظومة من تام الرجز ينتفي الإيطاء ، لكني قد ذكرت في ملف سابق أننا عندما نعتبر المنظومة من تام الرجز فهذا معناها أنها أبياتٌ مفردةٌ مصرعةٌ ، ولا بد من التقييد بالتصريع حتى نجيز في العروض ما لا يجوز إلا في الضرب وهو الواقع في المنظومات ، وأختصر الكلام المتقدم فأقول : البيت المصرع ؛ هل يقع بين عروضه وضربه إيطاء ? ، ظني أنه يقع ، وعليه لا نسلم للباجوري تعليله ، إلا أنه يرد على قولي إشكال وهو : أنه في كثير من القصائد تتماثل الكلمة التي هي عروض البيت الأول المصرع مع الكلمة التي هي القافية للبيت الثالث أو الرابع مثلاً ؛ فهل هذا أيضًا من قبيل الإيطاء مثلما أعتقد ? ، أَوْ ليست الحالتين المذكورتين من قبيل الإيطاء ؛ وعليه يصح تعليل الباجوري ? ، فمن استطاع أن يوضح لي هذه المسألة مع الإلماع إلى المراجع أكون له شاكرًا ومقدرًا .
- ولا أخفي الإخوة أني ما زلت غيرَ عارفٍ بإيقاع بحر الخفيف ، مع أنه من البحور المشهورة ، ومع أني تعانيت الكتابة عليه كثيرًا ، فمن يُبَيِّنْهُ لي أيضًا له مني جزيل الشكر كِفاءَ ما يفيدني .
-------------------------
[*] : قولنا : ( الرجز ) ( المنسرح ) ( البسيط ) = هذه أعلامٌ وضعت للبحور المختلفة ، وعندما نطلقها عليها فإنا نلاحظ فيها المعنى العَلَمي اللقبي دون المعنى اللغوي سواءٌ كان المصدري أو الاشتقاقي ، بل هي من حيث كونها أعلام = جوامد لا تتصرف ، وهذه نقطة تخالف ما ذكره الأستاذ / داود ، حيث قسم أسماء البحور إلى ما هو وصف وإلى ما هو مصدر ، والصواب أننا لا نلاحظ هنا شيئًا من المعنى اللغوي إطلاقًا لا الوصفية ولا المصدرية ولا غير ذلك ، ومثلها مثل أي لفظٍ يصطلح النحاة أو الفقهاء أو العروضيين أو غيرهم على وضعه ، فالمعاني اللغوية في الاصطلاحات متلاشية ، نعم قد تكون ثمت - بل كثيرًا - مناسبةٌ بين المعنى اللغوي وبين المسمى اقتضت تخصيصه بهذا الاسم دون سواه ، إلا أنه بعد الوضع تُتَنَاسى هذه المناسبة ، ويصبح الاسم عَلَمًا على مسماه فقط ، ولذلك فإن أسماء البحور أعلامٌ جوامد باعتبار ما آلت إليه ، بغض النظر عما كانت تعنيه سابقًا ، ولذلك فما ذكره من التفرقة بين أسماء البحور التي تسبق بكلمة [ بحر ] نكرة وبين الأخرى التي تسبق بكلمة [ البحر ] معرفة = لا نُسَلِّمه ، بل يجوز كلا الأمرين دون التقديرات التي ذكرها ولكن وفق الإعرابين الآتيين ، ففي حالة سبقها بكلمة [ بحر ] نكرة : نجعل الإضافة بيانية ، فقولنا : ( بحر الطويل ) معناه : البحر الذي هو الطويل ، وفي حالة سبقها بكلمة [ البحر ] مُعَرَّفةً بأل ؛ كقولنا : ( البحر الطويل ) : نعرب الطويل هنا بدلاً لا صفةً ، ويكون المعنى أيضًا : البحر الذي هو الطويل ، وكون هذين الإعرابين هما المتحتمين هو ما ذكرته سابقًا من أن أسماء البحور أعلامٌ وأن المعنى اللغويَّ منتفٍ عنها باعتبار وضعها العَلَمي ، وهذا المسألة من عندياتي ، لم أطلع عليها في كتاب ، فالمرجو من الأستاذ / داود والإخوة جميعًا النظرُ فيها والتصويبُ إن كانت خطأً .
[**] : تعريف كلمة ( غير ) بأل أجازه متأخرو النحاة ، وانظر على سبيل المثال (( مختصر السعد )) فقد ذكرها معرفة بأل في عدة مواضع ، وأجازوه أيضًا في ( كل ) و ( بعض ) كما ذكره الزجاجي في شرح الجمل على ما أتذكره من نقل ابن هشام عنه ، وأجازوه أيضًا في ( سوى ) ، وسند الجواز : أن الكلمات السابقة تُعَرَّف بالإضافة إلى الضمائر اتفاقًا ، والمعرف بالإضافة إلى الضمير في رتبة العَلَم كما صححه ابن هشام ، والعلم أَعْرَفُ من المحلى بأل ، فإذا جاز تعريف هذه الكلمات بالأعلى فإن تعريفها بالأدنى أولى بالجواز . وإعراب ما بعد ( غير ) في حال تنكيرها واضح وهو أنه مضاف إليه ؛ سواءٌ كان نكرةً أو معرفةً ، أما في حالة تعريفها بأل فإن ما بعدها يعرب أيضًا مضافًا إليه شريطةَ أن يكون هو أيضًا مُعَرَّفًا بأل مثل قولي : [ الغيرِ المقطوفِ ] ، أما قولهم مثلاً : [ الزجاجات الغير صالحةٍ ... ] فهو خطأ ، وبيان ذلك : أن الأصل في المضاف إليه أن يكون نكرة ، لكن هناك حالاتٌ يجوز أن يأتي فيها المضاف معرفًا بأل ، ومنها الحالة التي أجزناها ؛ وهي كون المضاف مشتقًا والمضاف إليه معرف بأل ، صحيح أن ( غير ) اسم جامد إلا أنها في تأويل اسم الفاعل : ( مغاير ) ، ولذلك جازت هذه الحالة ، أما الحالة الأخرى فإنها لم تَجُزْ لتخلف شرطٍ وهو تعريف المضاف إليه بأل ، وهناك حالتان يجوز فيهما تخلف هذا الشرط لكن مع وجود شرط آخر وهو كون المضاف مُثَنًّى أو جمعًا مذكرًا سالِمًا ، ولا يتأتى هذا في ( غير ) لأنها اسم جامد ، وجَمْعٌ الجوهري لها على ( أغيار ) مشكلٌ ، وعلى أية حالٍ هو لم يذكر لها مُثَنًّى ولا جمعًا مذكرًا سالِمًا . وهناك حالة أخرى جائزة لـ( الغير ) وهو أن تأتي مستقلة دون إضافة ، وتكون بمعنى : الآخرين ، ومثلها : ( السوى ) .
[***] : قال الملوي كما نقله عنه الباجوري في حاشيته على (( السلم )) : [ واعلم أنه جرى على ألسنتهم أصغر وصغرى وأكبر وكبرى وليس بلحن ؛ لأنهم لا يريدون تفضيلاً على معنى ( من ) ، وإنما يريدون معنى فاعل وفاعلة ، كما في قول النحويين جملة صغرى وجملة كبرى ، وقول العروضيين فاصلة صغرى وفاصلة كبرى ، وكما في قول ابن هانئ :-
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها - حصباء در على أرض من الذهب ] ، اهـ .
|