ما قرأته في مداخلتك الأخيرة أفرحني، لجهة أنني شعرت بأن غلاظتي قد أثمرت ، هي عكرت ماء اليقين، الذي لا بد من تعكيره من وقت لآخر لكي نزداد يقيناً . وجاء دفاعك على أحلى ما يكون ، بل ليكون مناسبة نتعرف من خلالها على الوجه الآخر للباحث زهير ظاظا ، ونلامس وجوده الإنساني ، وما زادنا هذا إلا تقديراً .
وجودك اليوم في المكان الصحيح يعني الكثير للكثيرين منا الذين تزخر بهم أمتنا ولم يجدوا مكانهم بعد .
نتشوق لمعرفة المزيد والمزيد ، لكني ارتأيت بأن نترك ساحة الفلسفة لكي لا ينقطع حبل النقاش فيها ، ونفتح ملفاً آخراً ، وهذا متروك لتقديرك وما تظنه مناسباً
كنت قد كتبت رواية صغيرة الحجم ، تحكي قصة بنت مراهقة في زمن الحرب الأهلية اللبنانية . أراها في صميم موضوعنا الفلسفي الذي نتناقش فيه ، لأنها ترمز إلى صراع الإنسان مع أهوائه وانشطاره بين رغبتين . وهي تبرز أيضاً مقاومة الموروث الثقافي ، عندما يكون عميقاً ومتأصلاً ، مع الفكر المكتسب بمظهره الحضاري " التحرري " وما يخفيه من طموحات .
الرواية اخترت لها عنوان " البنت التي تبلبلت ... " . الحدث ، الذي هو قصة حب فاشلة ، المغرق في عاديته ، اتخذته ذريعة للتوغل إلى الداخلي ، والحميم ، لفهم ما كان يعتمل من نوازع و تغيرات في نفس تلك البنت وعالمها المحيط من : عائلة ووطن وأصدقاء . هذه البنت كانت تتنازعها رغبتان ، الأولى: الحفاظ على نقائها الفطري، وهو ما نقلته إليها تربيتها وما تشعره في ذاتها السحيقة . والثانية: رغبتها في الحياة والتكيف مع زمنها ومحيطها وما كانت تدعيه من أفكار عصرية وما يستلزم كل ذلك من تنازلات لا بد منها
الحكاية تبدأ هكذا :
"البنت تحدث نفسها "
أتذكرين ? تلك البنت التي كنت أعرفها ! ... كانت رقيقة ، نقية ، دمثة الأخلاق ومنذورة لأن تكون أماً مثالية !... هكذا عرفتك ! فما الذي جرى لك ، لكي تتبدلي ? ما الذي حدث لك ، لكي تتبلبلي كالريح ... ? أهو الزمان من أشقاك وغير ألوانك ? وما الذي فعلتِه أنت بنفسك ، لكي أراك ، كأنك القطيع الشاردة : مشتتة ، مبعثرة ، ومنزوعة الروح ............. ?
ستقولين : " ربما هي الحرب التي داهمتني باكراً ، أعدمتني ماء الحياة ... أربعة عشر عاماً ، هي عمر الورود ، إعصار الطفولة اللجوجة ، ودفق الشباب الذي لا يطيق الانتظار ... لم أرها ، ضيعتها بالانتظار ... كان العمرجميلاً ، والوقت كان ودوداً : الوطن كان فيروز ، والحب كان فيروز ... . الأهل والأصدقاء ? كانوا بسطاء ، لا يعدون الأيام . حتى حدثت الزلزلة .... ! " .
لكني أنا رأيتها لما أقبلت ! هدية الزمان إليك ، لما أقبلت ، كما المهرجان ! كزهوة البستان أشرقت ، فرحت لها بذاك الزمان . ألا تذكرينها كما أذكرها أنا ? أم أنك تتناسين ? أتذكرين ? جدتك ، لما كانت تغرس شتولها بقرب باب الحديقة ? تضع بذور الحبق =الريحان= في باطن الأرض ، ثم تهيل عليها التراب بكفيها وهي تتمتم : " بحق الخضرأبو العباس ، تعيش زريعتي وما تيبس ..." ترددها ثلاث مرات ، تزرعها عند بزوغ هلال القمر ، وتسقيها من بعد الغروب ، ... كنت تضحكين في سرك وتقولين : " جدتي ، تعيش في الأساطير ! الماضي حكايات ، والحاضر ، دعاء وصلوات .... " . أتذكرين كيف كانت شتولها بهجة للروح ? مساكب الفل والنرجس ، وأحواض البنفسج والمنتور ، كانت بهجة للروح !.... كانت تشبه أعوامك الأربعة عشرة . أفلا تذكرين ?
"الحرب استدامت حروباً " ، تقولين ، " هدمتنا الحرب ! أعادتنا إلى مهدنا الأول ، العراء ! " . صحيح ، عزيزتي ، الحرب استطالت ، وعبثاً بحثنا لها عن أسباب ، لكي نحتويها ، لكي نعقلها . قالوا بأنها كانت حرباً طائفية . قلنا : بأننا انتفضنا ضد مشروع الانعزالية والصهيونية ....... أبي أقنعنا وقتذاك بأنها كانت أيضاً (حرب الرأسمالية ضد الطبقات الكادحة) وأنها حرب تحرير وثورة اجتماعية ! كان يردد : بأنها تحالف البورجوازية مع الفاشية ، والامبريالية العالمية ضد مصالح الشعوب الفقيرة ، من أندونيسيا ، إلى كوبا وفيتنام ، حتى الجزائر والصحراء الغربية ............ وكان يحفظ اسم لوركا وإلليندي إلى جانب المتنبي وأبي العلاء المعري ويتحدث عنهم بشيء من القدسية ........ هو كان أممياً ، ويحلم بالعدل الاجتماعي والمساواة بين البشر .......... " يا الله ! كم أحبه أبي ! أمير طفولتي ، وملهم سنواتي الأربعة عشرة . سيبقى لغزاً أبي : كان عروبياً ، لكنه كان لا يكف عن انتقاد عبد الناصر الذي" نكل بالشيوعيين " ، على حد قوله، "مع أنهم بنوا له السد العالي " ، ........... لكنه بكاه بحرقة شديدة يوم مات !
أتذكرين ! يوم استفقت بالصدفة ، ذات صباح ماطر، لتري ذلك المشهد الخيالي : كان الجبل يبكي ! يخفي وجهه بيده ويشهق بقوة ! يستمع إلى المذيع في الراديو الذي كان يبكي بدوره ، ويشهق هو أيضاً .... باليد الأخرى ، كان يحمل سيكارة تكاد تحرق أصابعه ....... اليد التي كان يلبس فيها ساعته الفاخرة التي طالما أثارت إعجابك ! أتذكرين ? " لن أفهمه أبداً أبي ! لن أفهمه " . عشرة أعوام مرت بعدها ......... رأيتِه مرة أخرى يتنقل، كالحجل ، بين ركام بيتكم الذي هدمته الحرب . يبحث عن بعض الصور ينتشلها من بين الأنقاض : " أوف ، أوف ، ولَكْ معَوَّدْ على الفجعات قلبي ... " ، كان يغني ! " يبدو أنها طقوس يا أبي ! طقوس اخترعناها ونعيد تمثيلها في كل مرة لنستعيد بها الفاجعة . طقوس ، نهدي فيها القرابين إلى آلهة الموت والدمار ! " ..............................................................................
لن تذكري رائدة الفضاء السوفياتية . لكن أمك سوف تذكرها لك بنشوة لو سألتِها عن الرفيقة ذات العيون الزرقاء الباردة التي صعدت إلى سطح القمر . " آه يا جدتي ، لو تعلمين ، بأنهم في بلاد الرفيقة ذات العيون الزرقاء، قد أنبتوا القطن ملوناً في سفوح " التوندرا "على اسم " لينين العظيم " ، وأن تقريرها عن زيارتها للقمر يفيد بأنه كومة أحجار لا تنفع ولا تضر ."
يومها ، كان أبوك قد اصطحب أمك معه لاستقبال الزائرة الاستثنائية . كل الرفاق كانوا قد اصطحبوا زوجاتهم ......... يومها ، قال أبوك لأمك ، باستحياء شديد ، وبعد تردد طويل : " بإمكانك أن تنزعي الغطاء عن رأسك لو أردت " . لم يكررها مرتين . ورغم أن أمك لا تعرف شيئاً عن الاضطهاد الطبقي ، ورغم أنها لم تعد تذكر شيئاً مما قالته الرفيقة عن دور المرأة في حركة التحرر العالمي ، إلا أنها انتزعته إلى غير رجعة ، همها كان ، أن تشبه " أسمهان " و " ليلى مراد " بتسريحتها الجديدة .