مجال البحث
المكتبة التراثية المكتبة المحققة أسماء الكتب المؤلفون القرآن الكريم المجالس
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث


يوميات دير العاقول

هاتف من ابن العميد   

تاريخ النص : 964 ب.م
المكان : [بغداد]

في زيارتي للعاصمة هذا العام، وصلني رسول من ابن العميد يدعوني إليه. ها هي فارس تريد سرقة شعري أيضا، أعلم أن مآل المجد إنمّا سيكون لهذه الدويلة الناشئة وأربابها. وأعلم أن ابن العميد هذا يريدني بوقا له. ولقد كان له حديث مع أبي نصر بن نباته حين وفد إليه، شاع في الأقطار، دلّ على نزقه، وهو يخشى أن لا ألبّيه لذلك. فعندما ورد أبو نصر بن نباته على أبي الفضل بن العميد وامتدحه بالقصيدة التي أولها:


برح    اشتياقي   وادّكاري   ولهيب      أنفاس      iiحرار
ومدامع                iiعبراتها   ترفضّ    عن    نوم   iiمطار
لله      قلب      ما      iiيجنّ   من   الهموم   وما   iiيوارى
لقد انقضى سكر الشباب   وما  انقضى  وصب الخمار


ال الى آخر هذه القصيدة.

عندما مدحه بها، تأخرت صلة الشاعر فشفع هذه القصيدة بأخرى، وأتبعها برقعة، فلم يزده ابن العميد إلا الإهمال، مع رقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوسل إلى أن دخل عليه المجلس وهو حافل بأعيان الدولة، ومقدمي أصحاب الديوان ووقف بين يديه، وأشار بيده إليه وقال أيها الرئيس: قد لزمتك لزوم الظلّ، فذلك لي ذل النعل، وأكلت النوى المحرق انتظارا لصدقتك، فوالله ما بي شيء من الحرمان إلا شماتة قوم نصحوني، فأغششتهم واتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم? وبأي حجة أقاومهم ولم أحصل من مديح بعد مديح ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم، ويأس مسقم? فإن كان للحج علامة، فأين هي? وما هي?
إن الذين تحسدهم على ما مدحوا كانوا من طينتك، وإن الذين هم هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم سناما، وأنورهم شعاعا، وأشرفهم بقاعا. فحار ابن العميد، ولم يدر ما يقول. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة، وعن الإطالة في العذرة، وإذا تواهبنا ما دفعناه إليك استأنفنا ما نتحامد عليه.
قال ابن نباتة: أيها الرئيس هذه نفثة صدر قد زوى منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل يستلام. فاستشاط ابن العميد وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله، ولقد نافرت العميد من دون هذا، حتى دفعنا إلى شغب عاتم، ولجاج قاتم، ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عنك، وان بعض ما أوقرته في مسامعي ينقض مرة الحلم، ويبدد شمل الصبر، ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مديحيي ولا كلّفتك تقريظي.
قال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس، ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك، ولا كلّفتني تقريظك، ولكنّك جلست في صدر إيوانك بأبهّتك وقلت: لا يخاطبني أحد في بلادنا إلا بالرّياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني وزير ركن الدولة، وزعيم الحضرة، والقيم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال وإن لم تدعني بلسان المقال. فثار ابن العميد مغضبا، وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس، وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار يقول: والله، إن سفّ التراب، والمشي على الجمر، أهون من هذا، فلعن الله الشعر إذا كان بائعه مهينا له، ومشتريه مماكسا فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد، وثاب إليه حلمه، التمسه من الغد ليعتذر إليه، ويزيل أثر ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد وأظنّها باقية إلى أن يموت.

اذهب إلى صفحة اليوميات