سورة آل عمران
مدنية واياتها مائتان
بين يدي السورة
سورة ال عمران من السور المدنية الطويلة ، وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على ركنين هامين من اركان الدين هما :
الاول : ركن العقيدة واقامة الادلة والبراهين على وحدانية الله جل وعلا .
الثاني : التشريع وبخاصة فيما يتعلق بالمغازي والجهاد في سبيل الله .
اما الاول فقد جاءت الايات الكريمة لاثبات الوحدانية ، والنبوة ، واثبات صدق القران ، والرد على الشبهات التي يثيرها اهل الكتاب حول الاسلام والقران ، وامر محمد عليه الصلاة والسلام ، واذا كانت سورة البقرة قد تناولت الحديث عن (الزمرة الاولى ) من اهل الكتاب وهم " اليهود واظهرت حقيقتهم ، وكشفت عن نواياهم وخباياهم ، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر ، فان سورة ال عمران قد تناولت (الزمرة الثانية) من اهل الكتاب وهم " النصارى الذين جادلوا في شان المسيح وزعموا الوهيته ، وكذبوا برسالة محمد وانكروا القران ، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من نصف السورة الكريمة ، وكان فيها الرد على الشبهات التي اثاروها ، بالحجج الساطعة ، والبراهين القاطعة ، وبخاصة فيما يتعلق بشان مريم وعيسى عليه السلام ، وجاء ضمن هذا الرد الحاسم بعض الاشارات والتقريعات لليهود ، والتحذير للمسلمين من كيد ودسائس اهل الكتاب .
اما الركن الثاني فقد تناول الحديث عن بعض الاحكام الشرعية كفرضية الحج ، والجهاد ، وامور الربا وحكم مانع الزكاة ، وقد جاء الحديث بالاسهاب عن الغزوات كغزوة بدر ، وغزوة احد والدروس التي تلقاها المؤمنون من تلك الغزوات ، فقد انتصروا في بدر ، وهزموا في احد بسبب عصيانهم لامر الرسول (ص) وسمعوا بعد الهزيمة من الكفار والمنافقين كثيرا من كلمات الشماتة والتخذيل ، فارشدهم تعالى الى الحكمة من ذلك الدرس ، وهي ان الله يريد تطهير صفوف المؤمنين من ارباب القلوب الفاسدة ، ليميز بين الخبيث والطيب ، كما تحدثت الايات الكريمة بالتفصيل عن النفاق والمنافقين ، وموقفهم من تثبيط همم المؤمنين ، ثم ختمت بالتفكر والتدبر في ملكوت السموات والارض وما فيهما من اتقان وابداع ، وعجائب واسرار ، تدل على وجود الخالق الحكيم ، وقد ختمت بذكر الجهاد والمجاهدين في تلك الوصية الفذة الجامعة ، التي بها يتحقق الخير ، ويعظم النصر ، ويتم الفلاح والنجاح [ يا ايها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ] .
فضلها :
عن النواس بن سمعان قال سمعت النبي (ص) يقول : " يؤتى يوم القيامة بالقران واهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمهم سورة البقرة وال عمران " .
التسمية :
سميت السورة ب " ال عمران " لورود ذكر قصة تلك الاسرة الفاضلة " ال عمران " ، وعمران هو والد مريم (ام عيسى ) ، وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الالهية ، بولادة السيدة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام .
تفسيرسورة ال عمران
قال الله تعالى : [ الم . الله لا اله الا هو الحي القيوم . . الى . . ان الله لا يخلف الميعاد ] من اية ( 1 ) الى نهاية اية (9)
اللغة :
[ الحي ] الدائم الذي لا يفنى ولا يموت.
[ القيوم ] القائم على تدبير شؤون العباد.
[ يصوركم ] التصوير : جعل الشيء على صورة معينة أى يخلقكم كما يريد .
[ الارحام ] جمع رحم وهو محل تكون الجنين .
[ محكمات ] المحكم : ما كان واضح المعنى ، قال القرطبي : " المحكم ما عرف تاويله ، وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه : ما لم يكن لاحد الى علمه سبيل مما استاثر تعالى بعلمه دون خلقه ، مثل الحروف المقطعة في اوائل السور ، هذا احسن ما قيل فيه " .
[ ام الكتاب ] اصل الكتاب واساسه وعموده .
[ زيغ ] ميل عن الحق يقال : زاغ زبغا أى مال ميلا .
[ تاويله ] التاويل : التفسير واصله المرجع والمصير ، من قولهم ال الامر الى كذا اذا صار اليه .
[ الراسخون ] الرسوخ : الثبوت في الشيء والتمكن منه قال الشاعر : لقد رسخت في القلب مني مودة لليلى ابت ايامها ان تغيرا .
سبب النزول :
نزلت هذه الايات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكبا ، فيهم اربعة عشر من اشرافهم ثلاثة منهم اكابرهم ، قدموا على النبي (ص) فتكلم منهم اولئك الثلاثة معه فقالوا تارة عيسى هو (الله ) لانه كان يحى الموتى ، وتارة هو (ابن الله ) اذ لم يكن له اب ، وتارة انه (ثالث ثلاثة) لقوله تعالى : " فعلنا وقلنا " ولو كان واحدا لقال : " فعلت وقلت " فقال لهم رسول الله (ص) : الستم تعلمون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يموت ! !
قالوا : بلى .
قال : الستم تعلمون انه لا يكون ولد الا ويشبه اباه ! !
قالوا : بلى .
قال : الستم تعلمون ان ربنا قائم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شينا من ذلك ؟
قالوا : لا .
قال : الستم تعلمون ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ؟ فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك الا ما علم ؟ قالوا : لا.
قال : الستم تعلمون ان ربنا لا ياكل الطعام ، ولا يشرب الشراب ، ولا يحدث الحدث ؟ وان عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ! !
قالوا : بلى ،
فقال (ص) : فكيف يكون كما زعمتم ؟
فسكتوا وابوا الا الجحود ، فانزل الله تعالى اول السورة الى نيف وثمانين اية ردا عليهم
التفسير :
[ الم ] اشارة الى اعجاز القران ، وانه منظوم من امثال هذه الحروف الهجائية ، وقد تقدم في اول البقرة .
[ الله لا اله الا هو ] أى لا رب سواه ولا معبود بحق غيره
[ الحي القيوم ] أى الباقي الدائم الذي لا يموت ، القائم على تدبير شؤون عباده
[ نزل عليك الكتاب بالحق ] أى نزل عليك يا محمد القران بالحجج والبراهين القاطعة
[ مصدقا لما بين يديه ] أى من الكتب المنزلة قبله المطابقة لما جاء به القران
[ وانزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ] أى انزل الكتابين العظيمين " التوراة " و " الانجيل " من قبل انزال هذا القران هداية لبني اسرائيل
[ وانزل الفرقان ] أى جنس الكتب السماوية لانها تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وقيل : المراد بالفرقان القران وكرر تعظيما لشانه
[ ان الذبن كفروا بايات الله ] أى جحدوا بها وانكروها وردوها بالباطل
[ لهم عذاب شديد ] أى عظيم اليم في الاخرة
[ والله عزيز ذو انتقام ] أى غالب على امره لا يغلب ، منتقم ممن عصاه
[ ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ] أى لا يغيب ولا يخفى عن علمه امر من الامور ، فهو مطلع على كل ما في الكون ، لا تخفى عليه خافية
[ هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء ] أى يخلقكم في ارحام امهاتكم كما يشاء ، من ذكر وانثى ، وحسن وقبيح
[ لا اله الا هو العزبز الحكيم ] أى لا رب سواه ، المتفرد بالوحدانية والالوهية ، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه ، وفي الاية رد على النصارى حيث ادعوا (الوهية عيسى) فنبه تعالى بكون عيسى مصورا في الرحم ، وانه لا يعلم الغيب ، على انه عبد كغيره من العباد
[ هو الذي انزل عليك الكتاب ] أى انزل عليك يا محمد القران العظيم
[ فيه ايات محكمات هن ام الكتاب ] أى فيه ايات بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها ولا غموض ، كايات الحلال والحرام ، هن اصل الكتاب واساسه
[ واخر متشابهات ] أى وفيه ايات اخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس ، فمن رد المتشابه الى الواضح المحكم فقد اهتدى ، وان عكس فقد ضل ، ولهذا قال تعالى
[ فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ] أى فاما من كان في قلبه ميل عن الهدى الى الضلال ، فيتبع المتشابه منه ، ويفسره على حسب هواه
[ ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله ] أى طلبا لفتنة الناس في دينهم ، وايهاما للاتباع بانهم يبتغون تفسير كلام الله ، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى (وكلمته القاها الى مريم وروح منه ) على ان عيسى ابن الله لانه (وروح منه ) فادعوا الوهيته ، وتركوا المحكم وهو قوله تعالى (ان هو الا عبد انعمنا عليه ) الدال على انه عبد من عباد الله ورسول من رسله
[ وما يعلم تاويله الا الله ] أى لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي الا الله وحده
[ والراسخون في العلم يقولون امنا به ] أى الثابتون المتمكنون من العلم ، يؤمنون بالمتشابه وانه من عند الله
[ كل من عند ربنا ] أى كل من المتشابه والمحكم حق وصدق لانه كلام الله ، قال تعالى
[ وما يذكر الا اولوا الالباب ] أى ما يتعظ ويتدبر الا اصحاب العقول السليمة المستنيرة
[ ربنا لا تزغ قلوبنا ] أى لا تملها عن الحق ولا تضلنا
[ بعد اذ هديتنا ] أى بعد ان هديتنا الى دينك القويم ، وشرعك المستقيم
[ وهب لنا من لدنك رحمة ] أى امنحنا من فضلك وكرمك ، رحمة تثبتنا بها على دينك الحق
[ انك انت الوهاب ] أى انت يا رب المتفضل على عبادك بالعطاء والاحسان
[ ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ] أى جامع الخلائق في ذلك اليوم الرهيب " يوم الحساب " الذي لا شك فيه
[ ان الله لا يخلف الميعاد ] أى وعدك حق وانت يا رب لا تخلف الموعد ، كقوله تعالى (ليجمعنكم الى يوم القيامة لا ريب فيه ومن اصدق من الله حدبثا) ؟ !
البلاغة :
1 - [ نزل عليك الكتاب ] عبر عن القران بالكتاب ، ايذانا بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية ، الحقيق بان يطلق عليه اسم الكتاب .
2 - [ لما بين يديه ] كناية عما تقدمه وسبقه من الكتب السماوية .
3 - [ وانزل الفرقان ] أى انزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل ، وهذا من باب " عطف العام على الخاص " لافادة الشمول ، مع العناية بالخاص تنويها لشانه .
4 - [ هن ام الكتاب ] هذه استعارة لطيفة ، والمراد بها ان هذه الايات ، جماع الكتاب واصله ، فهي بمنزلة الام له ، كما يتعلق الولد بامه ، ويفزع اليها في مهمه .
5 - [ والراسخون في العلم ] وهذه استعارة ايضا ، والمراد بها المتمكنون في العلم ، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الارض الخوارة ، وهو ابلغ من قوله : والثابتون في العلم .
الفوائد :
الاولى : روى مسلم عن عائشة ان رسول الله (ص) تلا [ هو الذي انزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات ] الاية ثم قال : " اذا رايتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فاولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " .
الثانية : قال القرطبي : احسن ما قيل قي المتشابه والمحكم : ان المحكم ما عرف تاويله ، وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما استاثر الله تعالى بعلمه دون خلقه ولم يكن لاحد الى علمه سبيل ، مثل وقت قيام الساعة ، وخروج ياجوج وماجوج ، وخروج الدجال ، وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في اوائل السور .
الثالثة : ايات القران قسمان : محكمات ومتشابهات كما دلت عليه الاية الكريمة ، فان قيل : كيف يمكن التوفيق بين هذه الاية وبين ما جاء في سورة هود ان القران كله محكم
[ كتاب احكمت اياته ] وما جاء في الزمر ان القران كله متشابة [ نزل احسن الحديث كتابا متشابها ] ؟ ! فالجواب ان لا تعارض بين الايات ، اذ كل اية لها معنى خاص غير ما نحن في صدده فقوله [ احكمت اياته ] بمعنى انه ليس به عيب ، وانه كلام حق فصيح الالفاظ ، صحيح المعاني وقوله
[ كتابا متشابها ] بمعنى انه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا ، فلا تعارض بين الايات .
الرابعة : روى البخاري عن سعيد بن جبير ان رجلا قال لابن عباس : اني اجد في القران اشياء تختلف علي ، قال : ما هو ؟ قال : قوله تعالى : (فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) وقال : (واقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) وقال تعالى : (ولا يكتمون الله حديثا) وقال (والله ربنا ما كنا مشركين ) فقد كتموا في هذه الاية ، وفي النازعات ذكر خلق السماء قبل خلق الارض ، وفي فصلت ذكر خلق الارض قبل خلق السماء ، وقال : (وكان الله غفورا رحيما) (وكان الله عزبزا حكيما) (وكان الله سميعا بصيرا) فكانه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : [ فلا انساب بينهم ] في النفخة الاولى [ فصعق من في السموات ومن في الارض الا من شاء الله ] فلا انساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الاخرة اقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، واما قوله [ ما كنا مشركين ] [ ولا يكتمون الله حديثا ] فان الله يغفر لاهل الاخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فيختم الله على افواههم ، فتنطق جوارحهم باعمالهم ، فعند ذلك عرف ان الله لا يكتم حديثا ، وعنده [ يود الذبن كفروا لو كانوا مسلمين ] ، وخلق الله الارض في يومين ، ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات في يومين ، ثم دحا الارض اي بسطها فاخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والاشجار والاكام وما بينها في يومين اخرين فذلك قوله [ والارض بعد ذلك دحاها ] فخلقت الارض وما فيها في اربعة ايام وخلقت السماء في يومين ، وقوله [ وكان الله غفورا رحيما ] أى لم يزل ولا يزال كذلك ، ويحك فلا يختلف عليك القران ، فان كلا من عند الله .
قال الله تعالى : [ ان الذبن كفروا لن تغني عنهم اموالهم ولا اولادهم . . الى . . والمستغفرين بالاسحار ] . من اية ( 10 ) الى نهاية اية (17 )
المناسبه :
لما حكى تعالى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم ان يثبتهم الله على الايمان ، حكى عن الكافرين سبب كفرهم وهو اغترارهم في هذه الحياة بكثرة المال والبنين ، وبين انها لن تدفع عنهم عذاب الله ، كما لن تغنى عنهم شيئا في الدنيا ، وضرب على ذلك الامثال بغزوة بدر ، حيث التقى فيها جند الرحمن بجند الشيطان ، وكانت النتيجة اندحار الكافرين مع كثرتهم وانتصار المؤمنين مع قلتهم .
اللغة :
[ تغني ] الاغناء : الدفع والنفع
[ وقود النار ] الوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار ، وبالضم مصدر بمعنى الاتقاد
[ دأب ] الدأب : العادة والشأن واصله من دأب الرجل في عمله اذا جد فيه واجتهد
[ اية ] علامة
[ فئة ] جماعة وسميت الجماعة من الناس (فئة) لانه يفاء اليها في وقت الشدة
[ عبرة ] العبرة : الاتعاظ واشتقاقها من العبور فالاعتبار انتقال من حالة الجهل ، الى حالة العلم
[ زين ] التزيين : تحسين الشيء وتجميله في عين الانسان
[ الشهوات ] الشهوة : ما تدعو النفس اليه وتشتهيه ويجمع على شهوات [ القناطير ] جمع قنطار وهو العقدة الكبيرة من المال ، او المال الكثير الذي لا يحصى
[ المقنطرة ] المضعفة وهو للتاكيد كقولك ألوف مؤلفة واضعاف مضاعفة قاله الطبري ، وروي عن الفراء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع ، فيكون تسع قناطير
[ المسومة ] المعلمه بعلامه تجعلها حسنة المنظر ، وقيل : المسومة : الراعية ، وقال مجاهد وعكرمة : انها الخيل المطهمة الحسان)
[ الماب ] المرجع يقال : اب الرجل ايابا ومابا قال تعالى [ ان الينا ايابهم ]
[ الاسحار ] السحر : الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وجمعه اسحار .
سبب النزول :
لما اصاب رسورل الله (ص) قريشا ببدر ، ورجع الى المدينة ، جمع اليهود فقال لهم : يا معشر اليهود اسلموا قبل ان يصيبكم الله بما اصاب قريشا ، فقد عرفتم اني نبى مرسل ! ! فقالوا يا محمد : لا يغرنك من نفسك ، انك قتلت نفرا من قريش كانوا اغمارا - يعني جهالا- لا علم لهم بالحرب ، انك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الرجال ، وانك لم تلق مثلنا فانزل الله (قل للذين كفروا ستغلبون) الاية .
التفسير :
[ ان الذين كفروا لن تغنى عنهم اموالهم ولا اولادهم ] أى لن تفيدهم الاموال والاولاد ، ولن تدفع عنهم من عذاب الله في الاخرة
[ من الله شيئا ] أى من عذاب الله وأليم عقابه
[ واولئك هم وقود النار ] أى هم حطب جهنم الذي تسجر ، وتوقد به النار
[ كدأب ال فرعون ] أى حال هؤلاء الكفار وشأنهم ، كحال وشأن ال فرعون ، وصنيعهم مثل صنيعهم
[ والذين من قبلهم ] أى من قبل ال فرعون من الأمم الكافره ، كقوم هود وصالح وشعيب
[ كذبوا باياتنا ] أى كذبوا بالايات التي تدل على رسالات الرسل
[ فاخذهم الله بذنوبهم ] أى اهلكهم وعاقبهم بسبب الكفر والمعاصي
[ والله شديد العقاب ] اي اليم العذاب شديد البطش . والغرض من الايه ان كفار قريش كفروا كما كفر اولئك المعاندون من ال فرعون ومن سبقهم ، فكما لم تنفع اولئك أموالهم ولا اولادهم ، فكذلك لن تنفع هؤلاء .
[ قل للذين كفروا ] أى قل يا محمد لليهود ولجميع الكفار
[ ستغلبون ] أى تهزمون في الدنيا
[ وتحشرون الى جهنم ] اي تجمعون وتساقون الى جهنم
[ وبئس المهاد ] اى بئس المهاد والفراش الذي تمتهدونه نار جهنم
[ قد كان لكم اية ] أى قد كان لكم يا معشر اليهود عظة وعبرة
[ في فئتين التقتا ] أى في طائفتين التقتا للقتال يوم بدر
[ فئة تقاتل في سبيل الله ] أي طائفة مؤمنة تقاتل لاعلاء دين الله
[ واخرى كافرة ] أى وطائفة اخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت ، وهم كفار قريش
[ يرونهم مثليهم ] أى يرى المؤمنون الكافرين اكثر منهم مرتين
[ رأى العين ] أى رؤية ظاهرة مكشوفة بالعين المجردة ، لا بالوهم والخيال ، لقوله تعالى : [ رأى العين ] أى رؤية حقيقة لا بالخيال
[ والله يؤيد بنصره من يشاء ] أى يقوى بنصره من يشاء
[ ان في ذلك لعبرة ] أى لأية وموعظة
[ لأولي الأبصار ] أى لذوي العقول السليمة والافكار المستقيمة . ومغزى الاية أن القوة المادية ليست كل شيء ، وأن النصر لا يكون بكثرة العدد والعتاد ، وانما يكون بمعونة الله وتاييده ، كقوله [ ان ينصركم الله فلا غالب لكم ] ثم اخبر تعالى عن اغترار الناس بشهوات الحياة الفانية فقال
[ زين للناس حب الشهوات من النساء ] أى حسن اليهم وحبب الى نفوسهم ، الميل نحو الشهوات ، وبدأ بالنساء لان الفتنة بهن اشد ، والالتذاذ بهن اكثر ، وفي الحديث " ما تركت بعدي فتنة هي اضر على الرجال من النساء " ثم ذكر ما يتولد منهن فقال
[ والبنين ] وانما ثنى بالبنين لانهم ثمرات القلوب وقرة الاعين كما قال القائل : وانما اولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الارض
لوهبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض ، وقدموا على الاموال ، لان حب الانسان لولده اكثر من حبه لماله
[ والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ] أى الاموال الكثيرة المكدسة من الذهب والفضة ، وانما كان المال محبوبا لانه يحصل به غالب الشهوات ، والمرء يرتكب الاخطار في تحصيله (وتحبون المال حبا جما) والذهب والفضة اصل التعامل ، ولذا خصا بالذكر
[ والخيل المسومة ] أى الأصيلة الحسان
[ والانعام ] أى الابل والبقر والغنم ، فمنها المركب والمطعم والزينة
[ والحرث ] أى الزرع والغراس لان فيه تحصيل اقواتهم
[ ذلك متاع الحياة الدنيا ] أى انما هذه الشهوات زهرة الحياة الدنيا ، وزينتها الفانية الزائلة
[ والله عنده حسن الماب ] اي حسن المرجع والثواب
[ قل اؤنبئكم بخير من ذلكم ] أى قل يا محمد : أاخبركم بخير مما زين للناس
من زهرة الدنيا ونعيمها الزائل ؟ والاستفهام للتقرير
[ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار ] أى للمتقين يوم القيامة جنات فسيحة ، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة
[ خالدبن فيها ] اي ماكثين فيها ابد الاباد
[ وازواج مطهرة ] أى منزهة عن الدنس والخبث ، الحسي والمعنوي : لا يتغوطن ، ولا يتبولن ، ولا يحضن ، ولا ينفسن ، ولا يعتريهن ما يعتري نساء الدنيا
[ ورضوان من الله ] اي ولهم مع ذلك النعيم رضوان من الله وأي رضوان ، وقد جاء في الحديث القدسي (احل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم بعده أبدا)
[ والله بصير بالعباد ] أى عليم باحوال العباد ، يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء . . ثم بين تعالى صفات هؤلاء المتقين الذين اكرمهم بالخلود في دار النعيم فقال
[ الذين يقولون ربنا اننا امنا ] اي امنا بك وبكتبك ورسلك
[ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ] أى اغفر لنا بفضلك ورحمتك ذنوبنا ، ونجنا من عذاب النار
[ الصابرين والصادقين والقانتين ] أى الصابرين على الباساء والضراء ، والصادقين في ايمانهم وعند اللقاء ، والمطيعين لله في الشدة والرخاء
[ والمنفقين ] أى الذين يبذلون اموالهم في وجوه الخير
[ والمستغفرين بالاسحار ] أى وقت السحر قبيل طلوع الفجر ، وهذه ساعة استجابة الدعاء ، ولهذا خصها بالذكر .
البلاغة :
[ من الله ] فيه ايجاز بالحذف أى من عذاب الله
[ شيئا ] التنكير للتقليل أى لن تنفعهم أي نفع ولو قليلا
[ واولئك هم وقود النار ] الجملة اسمية للدلالة على ثبوت الامر وتحققه
[ كذبوا باياتنا فاخذهم الله ] فيه التفات من الغيبة الى الحاضر ، والاصل فاخذناهم
[ لكم اية ] الاصل " اية لكم " وقدم للاعتناء بالمقدم والتشويق الى المؤخر ، والتنكير في اية للتفخيم والتهويل أى اية عظيمة ومثله التنكير في [ رضوان من الله ] وقوله تعالى : [ ترونهم ] و[ راي العين ] بينهما جناس الاشتقاق
[ حب الشهوات ] يراد به المشتهيات ، عبر بالشهوات مبالغة كانها نفس الشهوات ، وتنبيها على خستها لان الشهوة مسترذلة عند الحكماء
[ بخير من ذلكم ] ابهام الخير لتفخيم شانه والتشويق لمعرفته
[ للذين اتقوا عند ربهم ] التعرض لعنوان الربوبية لاظهار مزيد اللطف بهم
[ القناطير المقنطرة ] بينهما من المحسنات البديعية ما يسمى بالجناس الناقص ، او جناس الاشتقاق .
فائدة :
الاولى : من هو المزين للشهوات ؟ قيل : هو الشيطان ويدل عليه قوله تعالى [ وزين لهم الشيطان اعمالهم ] وتزيين الشيطان : وسوسته وتحسينه الميل اليها ، وقيل : المزين هو الله ويدل عليه [ انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا ] وتزيين الله للابتلاء ليظهر عبد الشهوة من عبد المولى ، وهو ظاهر قول عمر : " اللهم لا صبر لنا على ما زينت لنا الا بك " .
الثانية : تخصيص الاسحار بالاستغفار لان الدعاء فيها اقرب الى الاجابة ، لان النفس اصفى ، والروح اجمع ، والعبادة اشق ، فكانت اقرب الى القبول ، قال ابن كثير : كان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول يا نافع : هل جاء السحر ؟ فاذا قال نعم اقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح .
قال الله تعالى : [ شهد الله انه لا اله الا هو. . الى . . ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] من اية (18 ) الن نهاية اية (25)
المناسبه :
لما مدح تعالى المؤمنين واثنى عليهم بقوله [ الذين يقولون ربنا اننا امنا ] اردفه بأن بين أن دلائل الايمان ظاهرة جلية فقال [ شهد الله انه لا اله الا هو ] ثم بين ان الاسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده ، وامر الرسول بان يعلن استسلامه لله وانقياده لدين الله ، واعقبه بذكر ضلالات اهل الكتاب واختلافهم في امر الدين اختلافا كبيرا ، واعراضهم عن قبول حكم الله تبارك وتعالى .
اللغة :
[ شهد ] الشهادة : الاقرار والبيان
[ القسط ] العدل
[ الدين ] اصل الدين في اللغة : الجزاء ويطلق على الملة وهو المراد هنا
[ الاسلام ] الاسلام في اللغة : الاستسلام والانقياد التام ، ومعناه اخلاص الدين والعقيدة لله تعالى
[ حاجوك ] جادلوك ونازعوك
[ غرهم ] فتنهم
[ يفترون ] يكذبون .
سبب النزول :
لما استقر رسول الله (ص) بالمدينة قدم عليه حبران من احبار الشام ، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : انت محمد ؟ قال : نعم ، قالا : وانت احمد ؟ قال نعم ، قالا : نسألك عن شهادة فأن اخبرتنا بها امنا بك وصدقناك ، فقال لهما رسول الله (ص) : سلاني ، فقالا : اخبرنا عن اعظم شهادة في كتاب الله ؟ فنزلت [ شهد الله انه لا اله الا هو ] الاية فاسلم الرجلان ، وصدقا برسول الله (ص) .
التفسير
[ شهد الله انه لا اله الا هو ] أى بين ووضح تعالى لعباده انفراده بالوحدانية ، قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بشهادة الشاهد في البيان والكشف
[ والملائكة واولوا العلم ] اي وشهدت الملائكة واهل العلم بوحدانيته ، بدلائل خلقه وبديع صنعه
[ قائما بالقسط ] أى مقيما للعدل فيما يقسم من الاجال والارزاق
[ لا اله الا هو ] أى لا معبود في الوجود بحق الا هو
[ العزيز الحكيم ] اي العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه
[ ان الدين عند الله الاسلام ] أى الدين المقبول عند الله هو الاسلام ، ولا دين يرضاه الله سوى الاسلام
[ وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم ] أى وما اختلف اليهود والنصارى في امر الاسلام ، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، الا بعد ان عرفوا بالحجج النيرة ، والايات الباهرة حقيقة الامر ، فلم يكن كفرهم عن شبهة وخفاء ، وانما كان عن استكبار وعناد ، فكانوا ممن ضل عن علم
[ بغيا بينهم ] أى حسدا كائنا بينهم ، حملهم عليه حب الرئاسة
[ ومن يكفر بايات الله فان الله سريع الحساب ] وهو وعيد وتهديد أى من يكفر باياته تعالى ، فانه سيصير
الى الله سريعا فيجازيه على كفره
[ فان حاجوك فقل اسلمت وجهى لله ] أى ان جادلوك يا محمد في شأن الدين فقل لهم : انا عبد لله ، قد استسلمت بكليتى لله ، واخلصت عبادتي له وحده ، لا شريك له ولا ند ولا صاحبة ولا ولد
[ ومن اتبعن ] أى انا واتباعي على ملة الاسلام ، مستسلمون منقادون لامر الله
[ وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ] أى قل لليهود والنصارى والوثنيين من العرب
[ أأسلمتم ] أى هل اسلمتم ام انتم باقون على كفركم ؟ فقد اتاكم من البينات ما يوجب اسلامكم
[ فان اسلموا فقد اهتدوا ] أى فان اسلموا كما اسلمتم ، فقد نفعوا انفسهم بخروجهم من الضلال الى الهدى ، ومن الظلمة الى النور
[ وأن تولوا فانما عليك البلاغ ] أى وان اعرضوا فلن يضروك يا محمد ، اذ لم يكلفك الله بهدايتهم ، وانما انت مكلف بالتبليغ فحسب ، والغرض منها تسلية النبي (ص)
[ والله بصير بالعباد ] أى عالم بجميع احوالهم فيجازيهم عليها . . روي ان رسول الله (ص) لما قرأ هذه الاية على اهل الكتاب قالوا : اسلمنا ، فقال عليه السلام لليهود : أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله ! فقالوا : معاذ الله ، فقال للنصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله ، فقالوا : معاذ الله ان يكون عيسى عبدا ؟ انه ابن الله ، وذلك قوله عز وجل (وان تولوا) .
[ ان الذين يكفرون بايات الله ] أى يكذبون بما انزل الله
[ ويقتلون النبيين بغير حق ] أى يقتلون انبياء الله بغير سبب ولا جريمة ، الا لكونهم دعوهم الى الله ، وهم اليهود قتلوا (زكريا) وابنه (يحيى) وقتلوا انبياء الله ، قال ابن كثير : " قتلت بنو اسرائيل ثلاثمائة نبي من اول النهار ، واقاموا سوق يقلهم من اخره "
[ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ] أى يقتلون الدعاة الى الله الذين يأمرون بالخير والعدل
[ فبشرهم بعذاب اليم ] أى اخبرهم بما يسرهم ، وهو العذاب الموجع المهين ، والاسلوب للتهكم ، وقد استحقوا ذلك ، لانهم جمعوا ثلاثة انواع من الجرائم : الكفر بايات الله ، وقتل الانبياء ، وقتل الدعاة الى الله ، قال تعالى مبينا عاقبة اجرامهم :
[ اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة ] أى بطلت اعمالهم التي عملوها من البر والحسنات ، ولم يبق لها اثر في
الدارين ، بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا والاخرة
[ وما لهم من ناصرين ] أى ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله او يدفع عنهم عقابه . . ثم ذكر تعالى طرفا من لجاج وعناد اهل الكتاب فقال سبحانه :
[ الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب ] أى لا تعجب يا محمد من امر هؤلاء الذين اوتوا نصيبا من الكتاب ! الصيغة صيغة تعجيب للرسول او لكل مخاطب ، يريد احبار اليهود ، الذين حصلوا نصيبا وافرا من التوراة
[ يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ] أى يدعون الى التوراة كتابهم الذي بين ايديهم ، والذي يعتقدون صحته ، ليحكم بينهم فيما تنازعوا فيه فيأبون
[ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ] أى ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكم الله ، وجملة [ وهم معرضون ] تاكيد للتولي أى وهم قوم طبيعتهم الاعراض عن الحق ، والاصرار على الباطل ، والاية تشير الى قصة تحاكم اليهود عند النبي (ص) ، لما زنى منهم اثنان ، فحكم عليهما بالرجم فأبوا وقالوا : لا نجد فى كتابنا الا (التحميم ) فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما ، فغضبوا فشنع تعالى عليهم بهذه الاية
[ ذلك بانهم قالوا لن تمسنا النار الا اياما معدودات ] أى ذلك التولي والاعراض بسبب افترائهم على الله ، وزعمهم انهم ابناء الانبياء ، وان النار لن تصيبهم الا مدة يسيرة - اربعين يوما - مدة عبادتهم للعجل
[ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ] أى غرهم كذبهم على الله
[ فكيف اذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ] أى كيف يكون حالهم يوم القيامة حين يجمعهم الله للحساب ! ! وهو استعظام لما يدهمهم من الشدائد والاهوال ؟
[ ووفيت كل نفس ما كسبت ] اي نالت كل نفس جزاءها العادل
[ وهم لا يظلمون ] أى لا يظلمون بزيادة العذاب او نقص الثواب .
البلاغة :
1 - [ ان الدين عند الله الاسلام ] الجملة معرفة الطرفين فتفيد الحصر أى لا دين يقبله الله الا الاسلام .
2 - [ الذين اوتوا الكتاب ] التعبير عن اليهود والنصارى بقوله (اوتوا الكتاب ) لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم ، فان اختلافهم مع علمهم بالكتاب في غاية القبح والشناعة .
3 - [ بايات الله فأن الله ] اظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وادخال الروعة في النفس .
4 - [ اسلمت وجهي ] اطلق الوجه واراد الكل فهو (مجاز مرسل ) من اطلاق الجزء لارادة الكل ، اي استسلمت بنفسى وكليتي لحكم الله وقضائه .
5 - [ فبشرهم بعذاب اليم ] الاصل في البشارة ان تكون في الخير واستعمالها في الشر للتهكم ويسمى (الاسلوب التهكمى) حيث نزل الانذار منزلة البشارة السارة .
فائدة :
قال القرطبي : في هذه الاية دليل على فضل العلم ، وشرف العلماء ، فانه لو كان احد اشرف من العلماء ، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء ، ويكفي في شرف العلم قوله لنبيه (ص) : [ وقل ربى زدني علما ] وقوله (ص) " أن العلماء ورثة الانبياء " وفي حديث ابن مسعود ان من قرأ قوله تعالى [ شهد الله انه لا اله الا هو ] الاية فانه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى : عبدي عهد الى عهدا وانا احق من وفى ، ادخلوا عبدي الجنة.
لطيفة :
من اطرف ما قرأت في بيان فضل العلم تلك (المحاورة اللطيفة) بين العقل والعلم حيث يقول القائل ، وقد ابدع واجاد :
علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد احرز الشرفا ؟
فالعلم قال : انا احرزت غايته والعقل قال : انا الرحمن بي عرفا
فافصح العلم افصاحا وقال له بأينا الله في فرقانه اتصفا ؟
فبان للعقل ان العلم سيده فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
قال الله تعالى : [ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء . . الى . . فان الله لا يحب الكافرين ] من اية (26) الى نهاية اية ( 32)
المناسبة :
لما ذكر تعالى في الايات السابقة دلائل التوحيد والنبوة وصحة دين الاسلام ، اعقبه بذكر البشائر التي تدل على قرب نصر الله للمسلمين ، فالامر كله بيد الله يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وامر رسوله بالدعاء والابتهال الى الله ، بأن يعز جند الحق وينصر دينه المبين .
اللغة :
[ اللهم ] أصله يا الله حذفت اداة النداء واستعيض عنها بالميم المشددة ، هكذا قال الخليل وسيبويه
[ تنزع ] تسلب ويعبر به عن الزوال يقال : نزع الله عنه الشر أى أزاله
[ تولج ] الايلاج : الادخال ، يقال : ولج يلج ولوجا ومنه [ حتى يلج الجمل في سم الخياط ]
[ امدا ] الامد : غاية الشيء ومنتهاه وجمعه اماد
[ تقاة ] تقية وهي مداراة الانسان مخافة شره .
سبب النزول :
ا - لما افتتح رسول الله (ص) مكة ، ووعد امته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم ! ! هم اعز وأمنع من ذلك ، الم يكفه مكة حتى طمع في ملك فارس والروم فانزل الله [ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء . . ] الاية.
ب - عن ابن عباس أن " عبادة بن الصامت " - وكان بدريا تقيا - كان له حلف مع اليهود ، فلما خرج النبي (ص) يوم الاحزاب قال له عبادة : يا نبى الله ان معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت ان يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو ، فانزل الله [ لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء ] الاية .
التفسير :
[ قل اللهم مالك الملك ] أى قل : يا الله يا مالك كل شيء
[ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ] أى انت المتصرف في الاكوان ، تهب الملك لمن تشاء ، وتخلع الملك ممن تشاء
[ وتعز من تشاء وتذل من تشاء ] أى تعطي العزة لمن تشاء والذلة لمن تشاء
[ بيدك الخير انك على كل شيء قدير ] أى بيدك وحدك خزائن كل خير ، وانت على كل شيء قدير
[ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ] أى تدخل الليل في النهار كما تدخل النهار في الليل ، فتزيد في هذا وتنقص فى ذاك والعكس ، وهكذا تتبدل فصول السنة شتاء وصيفا
[ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ] اي تخرج الزرع من الحب ، والحب من الزرع ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والبيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، هكذا قال ابن كثير ، وقال الطبري : (يخرج الانسان الحى والانعام والبهائم ، من النطف الميتة ، ويخرج النطفة الميتة ، من الانسان الحي والبهائم الاحياء)
((وللشهيد سيد قطب قول رائع في معنى الاية الكريمة ننقله بايجاز من الظلال يقول قدس الله روحه " وسواء كان معنى ايلاج الليل في النهار وايلاج النهار في الليل : هو اخذ هذا من ذاك ، واخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . سواء كان هذا او ذاك فان القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الافلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة امام تلك الكرة المضيئة - يعني الشمس - وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء ، شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل الى وضاءة النهار ، وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام ، شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في الشتاء ، ويطول النهار وهو يسحب من الليل في الصيف . . كذلك الحياة والموت يدب أحدهما في الاخر في بطء وتدرج ، كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت الى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبني فيه الحياة ، خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل ، هكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار ، تبرزها هذه الاشارة القرانية القصيرة للعقل البشري ، ولا يستطيع انسان ان يدعي أنه هو الذي يصنع من هذا كله شينا ، ولا يزعم عاقل كذلك انها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير ، وانما هي حركة خفية هائلة تديرها يد القادر المبدع اللطيف المدبر " )).
[ وترزق من تشاء بغير حساب ] أى تعطي من تشاء عطاء واسعا بلا عد ولا تضييق . . ثم نهى تعالى عن اتخاذ الكافرين انصارا واحبابا فقال
[ لا يتخد المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ] أى لا توالوا اعداء الله وتتركوا اولياءه ، فمن غير المعقول أن يجمع الانسان بين محبة الله وبين محبة اعدائه ، قال الزمخشري : نهوا ان يوالوا الكافرين لقرابة بينهم او صداقة ، او غير ذلك من الاسباب التي يتصادق بها ويتعاشر
[ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ] أى من يوال الكفرة فليس من دين الله في شيء
[ الا ان تتقوا منهم تقاة ] أى الا ان تخافوا منهم محذورا او تخافوا أذاهم وشرهم ، فاظهروا موالاتهم باللسان دون القلب ، لانه من نوع مداراة السفهاء كما في الحديث الشريف " انا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم "
[ ويحذركم الله نفسه ] أى يخوفكم الله عقابه الصادر منه تعالى
[ والى الله المصير ] أى المنقلب والمرجع فيجازي كل عامل بعمله
[ قل ان تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ] أى ان اخفيتم ما في قلوبكم من موالاة الكفار او اظهرتموه ، فان الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية
[ ويعلم ما في السموات وما في الارض ] أى عالم بجميع الامور ، يعلم كل ما هو حادث فى ، السموات والارض ،
[ والله على كل شئ قدير ] اى وهو سبحانه قادر على ، الانتقام ممن ، خالف حكمه وعصى أمره ، وهو تهديد عظيم
[ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ] أى يوم القيامة يجد كل انسان جزاء عمله حاضرا لا يغيب عنه ، ان خيرا فخير وان شرا فشر ، فان كان عمله حسنا سره ذلك وأفرحه
[ وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه امدا بعيدا ] أى وان كان عمله سيئا تمنى ان لا يرى عمله ، واحب ان يكون بينه وبين عمله القبيح غاية في نهاية البعد ، أى مكانا بعيدا كما بين المشرق والمغرب
[ ويحذركم الله نفسه ] أى يخوفكم عقابه
[ والله رءوف بالعباد ] أى رحيم بخلقه يحب لهم ان يستقيموا على صراطه المستقيم
[ قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ] أى قل لهم يا محمد : ان كنتم حقا تحبون الله فاتبعوني لاني رسوله يحبكم الله
[ ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ] أى بأتباعكم الرسول وطاعتكم لامره يحبكم الله ، ويغفر لكم ما سلف من الذنوب . قال ابن كثير : " هذه الاية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية ، فانه كاذب في دعواه تلك ، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع اقواله وافعاله " ثم قال تعالى :
[ قل اطيعوا الله والرسول ] أى اطيعوا امر الله وامر رسوله
[ فان تولوا ] أى أعرضوا عن الطاعة
[ فان الله لا يحب الكافرين ] أى لا يحب من كفر باياته وعصى رسله بل يعاقبه ويخزيه [ يوم لا يخزي الله النبى والذين امنوا معه ] .
البلاغة :
جمعت هذه الايات الكريمة من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة ما يلي :
1 - الطباق في مواضع مثل " تؤتي وتنزع " و " تعز وتذل " و " الليل والنهار " و " الحي والميت " و " تخفوا وتبدوا " وفي " خير وسوء " و " محضرا وبعيدا .
2 - والجناس الناقص في " مالك الملك " وفي " تحبون ويحببكم " وجناس الاشتقاق بين " تتقوا وتقاة " وبين " يغفر وغفور " .
3-رد العجز على الصدر في [ تولج الليل في النهار ] و[ تولج النهار في الليل ] .
4 - التكرار في جمل للتفخيم والتعظيم كقوله [ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ] .
5 - الايجاز بالحذف في مواطن عديدة كقوله [ تؤتي الملك من تشاء ] أى من تشاء ان تؤتيه ومثلها وتنزع ، وتعز ، وتذل .
6 - [ تولج الليل في النهار ] قال في تلخيص البيان : وهذه استعارة عجيبة وهي عبارة عن ادخال هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فما ينقصه من الليل يزيده في النهار والعكس ، ولفظ الايلاج ابلغ لانه يفيد ادخال كل واحد منهما في الاخر بلطيف الممازجة وشديد الملابسة .
7 - [ تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ] الحى والميت مجاز عن المؤمن والكافر فقد شبه المؤمن بالحي والكافر بالميت (( هذا على رأى من فسر الأية بالوجه الاخر ، وهو أن المراد يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ويدل عليه قوله تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " وهو قول الحسن البصرى ) والله اعلم )) .
فائدة :
في الاقتصار على ذكر الخير [ بيدك الخير ] دون ذكر الشر تعليم لنا الادب مع الله ، فالشر لا ينسب الى الله تعالى أدبا وأن كان منه خلقا وتقديرا [ قل كل من عند الله ] .
تنبيه :
روى مسلم في صحيحه عن رسول الله (ص) انه قال : " ان الله اذا احب عبدا دعا جبريل فقال : اني احب فلانا فاحبه ، قال : فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول : ان الله يحب فلانا فاحبوه قال : فيحبه اهل السماء ، واذا ابغض عبدا دعا جبريل فيقول : اني أبغض فلانا فابغضه قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في اهل السماء : ان الله يبغض فلانا فابغضوه فيبغضونه ، ثم توضع له البغضاء في الارض " .
قال الله تعالى : [ ان الله اصطفى أدم ونوحا . . الى . . وسبح بالعشى والابكار ] من اية (33) الى نهاية اية ( 41 )
المناسبة :
لما بين تعالى أن محبته لا تتم الا بمتابعة الرسل وطاعتهم ، بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم ، فبدأ بأدم أولهم ،
وثنى بنوح أبى البشر الثاني ، ثم اتى ثالثا بال ابراهيم فاندرج فيهم رسول الله (ص) لانه من ولد اسماعيل ، ثم اتى رابعا بال عمران فاندرج فيه عيسى عليه السلام ، واعقب ذلك بذكر ثلاث قصص : قصة ولادة مريم ، وقصة ولادة يحيى ، وقصة ولادة عيسى ، وكلها خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير .
اللغة :
[ اصطفى ] اختار وأصله من الصفوة أى جعلهم صفوة خلقه
[ محررا ] ماخوذ من الحرية وهو الذي يجعل حرا خالصا لله عز وجل ، الذي لا يشوبه شيء من امر الدنيا
[ اعيذها ] عاذ بكذا : اعتصم به
[ وكفلها ] الكفالة : الضمان يقال كفل يكفل فهو كافل ، وهو الذي ينفق على انسان ويهتم بمصالحه وفي الحديث " انا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين "
[ المحراب ] الموضع العالي الشريف ، قال ابو عبيدة : سيد المجالس واشرفها ومقدمها وكذلك هو من المسجد
[ حصورا ] من الحصر وهو الحبس ، وهو الذي يحبس نفسه عن الشهوات ، ولا ياتي النساء للعفة
[ عاقر ] عقيم لا تلد ، والعاقر : من لا يولد له من رجل او امراة
[ رمزا ] الرمز : الاشارة باليد او بالراس او بغيرهما
[ العشي ] من حين زوال الشمس الى غروبها
[ الابكار ] من طلوع الشمس الى وقت الضحى ، قال الشاعر : فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشى تذوق
التفسير :
[ ان الله اصطفى ادم ] أى اختار للنبوة صفوة خلقه منهم ادم ابو البشر
[ ونوحا ] شيخ المرسلين
[ وال ابراهيم ] أى عشيرته وذوي قرباه وهم (اسماعيل واسحاق ) والانبياء من اولادهما ، ومن جملتهم خاتم المرسلين
[ وال عمران ] أى اهل عمران ومنهم (عيسى ابن مريم ) خاتم انبياء بنى اسرائيل
[ على العالمين ] أى عالمي زمانهم ، قال القرطبي : وخص هؤلاء بالذكر من بين الانبياء ، لان الانبياء والرسل جميعا من نسلهم
[ ذرية بعضها من بعض ] أى اصطفاهم متجانسين في الدين ، والتقى ، والصلاح
[ والله سميع عليم ] أى سميع لاقوال العباد عليم بضمائرهم
[ اذ قالت امرأة عمران ] أى اذكر لهم وقت قول امراة عمران واسمها " حنة بنت فاقود "
[ رب اني نذرت لك ما في بطني ] أى نذرت لعبادتك وطاعتك ما احمله في بطني
[ محررا ] أى مخلصا للعبادة والخدمة
[ فتقبل مني انك انت السميع العليم ] أى السميع لدعائي العليم بنيتى
[ فلما وضعتها قالت رب اني وضعتها انثى ] أى لما ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار : يا رب انها أنثى ، قال ابن عباس : انما قالت هذا لانه لم يكن يقبل في النذر الا الذكور ، فقبل الله مريم ، قال تعالى
[ والله اعلم بما وضعت ] أى والله اعلم بالشيء الذي وضعت ، قالت ذلك أو لم تقله
[ وليس الذكر كالانثى ] أى ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبتها ، بل هذه أفضل . والجملتان معترضتان من كلامه تعالى ، تعظيما لشأن هذه المولودة ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها اية للعالمين
[ واني سميتها مريم ] من تتمة كلام امراة عمران ، والاصل اني وضعتها انثى واني سميتها مريم ، أى اسميت هذه الانثى مريم ، ومعناها في لغتهم العابدة خادمة الرب
[ واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ] أى اجيرها بحفظك واولادها من شر الشيطان الرجيم ، فاستجاب الله لها ذلك ، قال تعالى
[ فتقبلها ربها بقبول حسن ] أى قبلها الله قبولا حسنا ، قال ابن عباس : سلك بها طريق السعداء
[ وانبتها نباتا حسنا ] أى رباها تربية كاملة ، ونشأها تنشئة صالحة
[ وكفلها زكريا ] أى جعل زكريا كافلا لها ومتعهدا للقيام بمصالحها ، حتى اذا بلغت مبلغ النساء ، أنزوت في محرابها تتعبد الله
[ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ] أى كلما دخل عليها زكريا حجرتها ومكان عبادتها ، وجد عندها فاكهة وطعاما ، قال مجاهد : وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف
[ قال يا مريم انى لك هذا ] ؟ أى من اين لك هذا ؟
[ قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب ] أى رزقا واسعا بغير جهد ولا تعب
[ هنالك دعا زكريا ربه ] أى في ذلك الوقت الذي رأى فيه (زكريا) كرامة الله لمريم ، دعا ربه متوسلا ومتضرعا
[ قال ربى هب لي من لدنك ذرية طيبة ] أى اعطني من عندك ولدا صالحا - وكان شيخا كبيرا وامراته عجوز وعاقر - ومعنى طيبة : صالحة مباركة
[ انك سميع الدعاء ] أى مجيب لدعاء من ناداك
[ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ] أى ناداه جبريل حال كون زكريا قائما في الصلاة
[ ان الله يبشرك بيحيى ] أى يبشرك بغلام اسمه يحيى
[ مصدقا بكلمة من الله ] أى مصدقا (بعيسى) مؤمنا برسالته ، وسمي عيسى " كلمة الله " لانه خلق بكلمة " كن " من غير أب
[ وسيدا ] أى يسود قومه ويفوقهم
[ وحصورا ] أى يحبس نفسه عن الشهوات ، عفة وزهدا ، ولا يقرب النساء مع قدرته على ذلك ، وما قاله بعض المفسرين أنه كان عنينا فباطل ، لا يجوز على الانبياء لانه نقص وذم ، والاية وردت مورد المدح والثناء ((قال ابن كثير نقلا عن القاضي عياض " اعلم ان ثناء الله تعالى على (يحيى) أنه كان حصورا ليس كما قاله بعضهم إنه كان عنينا أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين وقالوا : هذه نقيصة وعيب ، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وانما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور او يمنع نفسه من الشهوات ، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وانما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها ، إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله كيحيى عليه السلام " انتهى )).
[ ونبيا من الصالحين ] أى ويكون نبيا من الانبياء الصالحين ، قال ابن كثير : وهذه بشارة ثانية بنبوته بعد البشارة بولادته وهي اعلى من الاولى ، كقوله لأم موسى (انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين)
[ قال رب انى يكون لي غلام ] أى كيف يأتينا الولد
[ وقد بلغني الكبر ] أى أدركتني الشيخوخة وكان عمره حينذاك مائة وعشرين سنة
[ وامرأتي عاقر ] أى عقيم لا تلد وكانت زوجته بنت تسع وتسعين سنة ، فقد اجتمع فيهما (الشيخوخة) و(العقم ) في الزوجة وكل من السببين مانع من الولد
[ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ] أى لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر
[ قال رب اجعل لي اية ] أى علامة على حمل امرأتي
[ قال ايتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا ] أى علامتك عليه ان لا تقدر على كلام الناس ، الا بالاشارة ثلاثة ايام بلياليها ، مع انك سوي صحيح ، والغرض انه ياتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر الله
[ واذكر ربك كثيرا ] أى اذكر الله ذكرا كثيرا بلسانك شكرا على النعمة ، فقد منع عن الكلام ولم يمنع عن الذكر لله ، والتسبيح له وذلك ابلغ في الاعجاز
[ وسبح بالعشي والابكار ] اي نزه الله عن صفات النقص بقولك سبحان الله في اخر النهار وأوله . وقيل : المراد صل لله ، قال الطبري : يعني عظم ربك بعبادته بالعشي والابكار.
البلاغه :
1 - [ والله اعلم بما وضعت ] [ وليس الذكر كالأنثى ] جملتان معترضتان لتعظيم الموضوع ورفع منزلة المولود .
2 - [ واني اعيذها ] صيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد .
3 - [ وانبتها نباتا حسنا ] شبهها في نموها وترعرعها بالزرع ، الذي ينمو شيئا فشيئا ، والكلام استعارة عن تربيتها بما يصلحها في جميع احوالها بطريق الاستعارة التبعية ، وهو من بديع علم البيان .
4 - [ فنادته الملائكة ] المنادي جبريل وعبر عنه باسم الجماعة ، تعظيما له لأنه رئيسهم
5 - [ بالعشي والابكار ] بين كلمتي " العشي " والابكار " طباق وهو من المحسنات البديعية .
الفوائد :
الاولى : روي أن " حنة " امراة عمران كانت عجوزا عاقرا لا تلد ، فبينما هى ذات يوم تحت ظل شجرة ، اذ رأت طائرا يطعم فرخه ، فحنت الى الولد وتمنته وقالت : اللهم ان لك على نذرا ان رزقتني ولدا ان أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته ، ثم هلك عمران وهي حامل ، وهذا سر النذر .
الثانية : قال ابن كثير عند قوله تعالى [ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ] قال : والاية فيها دلالة على كرامات الاولياء ، وفي السنة لهذا نظائر كثيرة ، وساق بسنده عن جابر قصة الجفنة ، وخلاصتها ان النبي (ص) جاع اياما فدخل على ابنته فاطمة الزهراء يسالها عن الطعام فلم يكن عندها شيء ، وارسلت اليها جارتها برغيفين وقطعة لحم ، فوضعتهما في جفنة ثم رأت الجفنة وقد امتلأت لحما وخبزا .
قال الله تعالى : [ واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك . . الى . . هذا صراط مستقيم ] من اية (42) الف نهاية اية (51) .
المناسبة :
لم ذكر تعالى قصة ولادة " يحيى بن زكريا " من عجوز عاقر وشيخ قد بلغ من الكبر عتيا ، وذلك بمقتضى السنن الكونية شيء خارق للعادة ، اعقبها بما هو ابلغ واروع في خرق العادات ، فذكر قصة ولادة السيد المسيح عيسى من غير اب ، وهي شيء اعجب من الاول ، والغرض من ذكر هذه القصة الرد على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى ، فذكر ولادته من مريم البتول ليدل على بشريته ، واعقبه بذكر ما ايده الله به من المعجزات ، ليشير الى رسالته ، وليس له من أوصاف الربوبية شىء ، كما يزعم النصارى .
اللغة :
[ انباء ] جمع نبأ وهو الخبر الهام
[ نوحيه ] الوحي : القاء المعنى في النفس في خفاء
[ اقلامهم ] القلم معروف وهو الذي يكتب به وقد يطلق على السهم الذي يقترع به وهو المراد هنا
[ المسيح ] لقب من الالقاب المشرفة كالصديق والفاروق ، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه : المبارك
[ وجيها ] شريفا ذا جاه وقدر ، والوجاهة الشرف والقدر
[ المهد ] فراش الطفل
[ كهلا ] الكهل : ما بين الشاب والشيخ والمراة كهلة ، قال في الوسيط : الكهل ما بين الثلاثين الى الخمسين
[ الأكمه ] الذي يولد اعمى
[ الابرص ] المصاب بالبرص ، وهو بياض يعتري الجلد ، وداء عضال يصعب شفاؤه .
التفسير :
[ واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك ] أى اذكر وقت قول الملائكة أى جبريل : يا مريم إن الله اختارك من بين سائر النساء فخصك بالكرامات
[ وطهرك ] من الأدناس والأقذار ، ومما اتهمك به اليهود الفجار من الفاحشة
[ واصطفاك على نساء العالمين ] أى اختارك على سائر نساء العالمين لتكونى مظهر قدرة الله ، فى إنجاب ولد بدون أب
[ يامريم اقنتى لربك ] أى إلزمى عبادته وطاعته شكرا على إصطفائه
[ وإسجدى وإركعى مع الراكعين ] أى صلى لله مع المصلين
[ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ] أى هذا الذى قصصناه عليك يأيها الرسول ، من قصة [ إمراة عمران ] ، وإبنتها [ مريم البتول ] ومن قصة [ زكريا ويحيى ] إنما هى من الأنباء المغيبة ، والأخبار الهامة التى أوحينا بها إليك ، ما كنت تعلمها من قبل
[ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ] أى ما كنت عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم حين ألقوا سهامهم للقرعة ، كل يريدها فى كنفه ورعايته
[ وما كنت لديهم إذ يختصمون ] أى يتنازعون فيمن يكفلها منهم .. والغرض أن هذه الأخبار كانت من عند الله العليم الخبير . . روى أن (حنة) حين ولدتها لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار – وهم فى بيت المقدس كالحجبة فى الكعبة – فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة !! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، ثم اقترعوا فخرجت فى كفالة زكريا فكفلها قال إبن كثير : وإنما قدر الله كون زكريا كافلا لها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما وعملا صالحا
[ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ] أى بمولود يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب
[ إسمه المسيح عيسى إبن مريم ] أى اسمه [ عيسى ] ولقبه المسيح ، ونسبه إلى أمه تنبيها على أنها تلده بلا أب
[ وجيها فى الدنيا والآخرة ] أى سيدا ومعظما فيهما
[ ومن المقربين ] عند الله
[ ويكلم الناس فى المهد وكهلا ] أى يكلمهم طفلا قبل وقت الكلام ، ويكلمهم كهلا ، قال الزمخشرى : ومعناه " ويكلم الناس فى هاتين الحالتين كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة " ولا شك أن ذلك غاية فى الإعجاز
[ ومن الصالحين ] أى وهو من الكاملين فى التقى والصلاح
[ قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر ] أى كيف يأتينى الولد وأنا لست بذات زوج ؟
[ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ] أى هكذا أمر الله عظيم ، لا يعجزه شئ ، يخلق بسبب من الوالدين وبغير سبب
[ اذا قضى أمرا فأنما يقول له كن فيكون ] أى اذا أراد شيئا حصل من غير تأخر ولا حاجة الى سبب ، يقول له " كن " فيكون
[ ويعلمه الكتاب ] أى الكتابة
[ والحكمة ] أى السداد فى القول والعمل ، أو سنن الأنبياء المكرمين
[ والتوراة والإنجيل ] أى ويجعله يحفظ التوراة والإنجيل ، قال إبن كثير : وقد كان عيسى يحفظ هذا وهذا
[ ورسولا إلى بنى إسرائيل ] أى ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل قائلا لهم
[ أنى قد جئتكم بآية من ربكم ] أى بأنى قد جئتكم بعلامة تدل على صدقى ، وهى ما أيدنى الله به من المعجزات ، وآية صدقى
[ أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ] أى أصور لكم من الطين مثل صورة الطير
[ فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ] أى أنفخ فى تلك الصورة فتصبح طيرا بإذن الله .قال أبن كثير : وكذلك كان يفعل ، يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخ فيه فيطير عيانا ، بأذن الله عز وجل ، الذى جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله ، وهذه المعجزة الأولى
[ وأبرئ الأكمه والأبرص ] أى أشفى الذى ولد أعمى ، كما أشفى المصاب بالبرص ، وهذه المعجزة الثانية
[ وأحيي الموتى بإذن الله ] أى أحي بعض الموتى لا بقدرتى ، ولكن بمشئة الله وقدرته ، وقد أحيا أربعة أنفس : عازر وكان صديقا له ، وإبن العجوز ، وبنت العاشر ، و[ سام بن نوح ] هكذا ذكر القرطبى وغيره ..... وكرر لفظ [ بإذن الله ] دفعا لتوهم الألوهية ، وهذه المعجزة الثالثة
[ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم ] أى وأخبركم بالمغيبات من أحوالكم التى لا تشكون فيها فكان يخبر الشخص بما أكل ، وما أدخر فى بيته ، وهذه هى المعجزة الرابعة
[ إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ] أى فيما أتيتكم به من المعجزات علامة واضحة تدل على صدقى ، إن كنتم مصدقين بآيات الله .... ثم أخبرهم أنه جاء مؤيدا لرسالة موسى فقال
[ ومصدقا لما بين يدى من التوراة ] أى وجئتكم مصدقا لرسالة موسى ، مؤيدا لما جاء به فى التوراة
[ ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم ] أى ولأحل لكم بعض ما كان محرما عليكم فى شريعة موسى ، قال إبن كثير : وفيه دليل على أن عيسى نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح
[ وجئتكم بأية من ربكم ] أى جئتكم بعلامة شاهدة على صحة رسالتى ، وهى ما أيدنى الله به من المعجزات ، وكرره تأكيدا
[ فأتقوا الله وأطيعون ] أى خافوا الله وأطيعوا أمرى
[ إن الله ربى وربكم فأعبدوه ] أى أنا وأنتم سواء فى العبودية له جل وعلا
[ هذا صراط مستقيم ] أى فإن تقوى الله وعبادته ، والإقرار بوحدانيته هو الطريق المستقيم الذى لا إعوجاج فيه.
البلاغة :
1- [ وإذ قالت الملائكة ] أطلق الملائكة وأريد به جبريل فهو من باب تسمية الخاص بإسم العام تعظيما له ويسمى [ المجاز المرسل ] .
2- [ إصطفاك وطهرك وإصطفاك ] تكرر لفظ [ اصطفاك ] كما تكرر لفظ [ مريم ] وهذا من باب الإطناب.
3- [ ولم يمسسنى بشر ] كنى عن الجماع بالمس ، كما كنى عنه بالحرث واللباس والمباشرة ، وكل ذلك لتعليمنا الأدب فى التعبير.
4- [ ولآحل لكم بعض الذى حرم ] بين لفظ [ أحل ] و[ حرم ] من المحسنات البديعية الطباق ، كما ورد الحذف فى عدة مواضع ، والإطناب فى عدة مواضع.
فائدة :
جاء التعبير هنا بقوله [ كذلك الله يخلق مايشاء ] بوصف الخلق ، وفى قصة يحيى [ كذلك الله يفعل ما يشاء ] والسر فى ذلك هو أن خلق عيسى من غير أب إيجاد وإختراع من غير سبب عادى ، فناسبه ذكر الخلق ، وهناك الزوجة والزوج موجودان ولكن وجود الشيخوخة والعقم مانع فى العادة من وجود الولد ، فناسبه ذكر الفعل والله أعلم.
تنبيه :
قال بعض العلماء : الحكمة فى أن الله لم يذكر فى القرآن امرأة بإسمها إلا [ مريم ] هى الإشارة من طرف خفى ، إلى رد ما زعمه النصارى من أنها زوجته ، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس ، ولينسب إليها عيسى بإعتبار عدم وجود أب له ، ولهذا قال فى الآية [ اسمه المسيح عيسى إبن مريم ] .
قال الله تعالى : [ فلما أحس عيسى منهم الكفر .. إلى .. فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ] من أية [ 52 ] إلى الآية [ 63 ] .
المناسبة :
لا تزال الآيات تتحدث عن قصة المسيح عيسى إبن مريم عليه السلام ، وقد ذكر تعالى فى الآيات السابقة بشارة مريم بالسيد المسيح ، ثم أعقبها بذكر معجزاته ، وكلها براهين ساطعة تدل على نبوته عليه السلام ، ومع كل البراهين والمعجزات التى أيده الله بها فإن الكثيرين من بنى إسرائيل لم يؤمنوا به ، وقد عزم أعداء [ اليهود ] على قتله فنجاه الله من شرهم ورفعه إلى السماء ، وألقى شبهه على بعض الناس ، وهذه أيضا من معجزاته الساطعة.
اللغة :
[ أحس ] عرف وتحقق وأصله من الإحساس وهو الإدراك ببعض الحواس الخمس
[ الحواريون ] جمع حوارى وهو صفوة الرجل وخاصته ، ومنه قيل للحضريات [ حواريات ] لخلوص ألوانهن وبياضهن ، قال الشاعر :
فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
والحواريون أتباع عيسى كالصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سموا [ حواريين ] لصفاء قلوبهم ونقاء سرائرهم
[ مكروا ] المكر : الخداع وأصله السعى بالفساد فى خفية ، قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم ، ومكر الله استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون حكى عن الفراء وغيره
[ نبتهل ] نتضرع فى الدعاء ، وأصل الإبتهال : الاجتهاد فى الدعاء باللعن ، والبهلة اللعنة.
سبب النزول :
لما قدم وفد نصارى نجران : وجادلوا رسول الله (ص) فى أمر عيسى ،
قالوا للرسول (ص) ما لك تشتم صاحبنا ؟
قال : وما أقول ؟
قالوا : تقول إنه عبد ،
قال : أجل انه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ،
فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله [ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ] الآية ،
وروى أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الإسلام ،
قالوا : قد كنا مسلمين قبلك ،
فقال : كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث : قولكم اتخذ الله ولدا ، وأكلكم الخنزير ، وسجودكم للصليب ، فقالوا : فمن أبوه إذا ، فأنزل الله [ إنه مثل عيسى .. إلى قوله .. ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ] فدعاهم النبى (ص) إلى المباهلة ،
فقال بعضهم لبعض : إن فعلتم اضطرم الوادى عليكم نارا !!
فقالوا : أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال : الإسلام أو الجزية أو الحرب ، فأقروا بالجزية.
التفسير :
[ فلما أحس عيسى منهم الكفر ] أى إستشعر من اليهود التصميم على الكفر ، والاستمرار على الضلال وإرادتهم قتله
[ قال من أنصارى إلى الله ] أى من أنصارى فى الدعوة إلى الله ، قال مجاهد : أى من يتبعنى إلى الله
[ قال الحواريون نحن أنصار الله ] أى قال المؤمنون الأصفياء من أتباعه نحن أنصار دين الله
[ آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ] أى صدقنا بالله وبما جئتنا به ، وأشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون فى نصرتك
[ ربنا آمنا بما أنزلت وإتبعنا الرسول فأكتبنا مع الشاهدين ] أى آمنا بآياتك وإتبعنا رسولك عيسى ، فأكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق .. ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال
[ ومكروا ومكر الله ] أى أرادوا قتله فنجاه الله من شرهم ، ورفعه إلى السماء دون أن يمس بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن [ يهوذا ] وسمى مكرا من باب المشاكلة (( الاتفاق فى اللفظ مع الاختلاف فى المعنى )) ولهذا قال
[ والله خير الماكرين ] أى أقواهم مكرا بحيث جعل تدميرهم فى تدبيرهم ، وفى الحديث (اللهم أمكر لى ولا تمكر على)
[ إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ] أى إنى رافعك إلى السماء ، ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ، ورفعه إلى السماء سالما دون أذى ، قال قتاده : هذا من المقدم والمؤخر تقديره : إنى رافعك إلى ، ثم متوفيك بعد ذلك ، بعد إنزالى إياك إلى الدنيا (( وأما قول بعض المفسرين أنه توفي ثلاث ساعات من نهار ثم رفع وقول بعضهم المراد بالوفاة وفاة النوم فضعيف ، فقد رده المحققون قال القرطبي : " والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري وهو الصحيح عن ابن عباس " )).
[ ومطهرك من الذين كفروا ] أى مخلصك من شر الأشرار الذين أرادوا قتلك ، قال الحسن : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه
[ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة ] أى جاعل اتباعك الذين امنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ، ظاهرين على من ناوأهم الى يوم القيامة ، وفي تفسير الجلالين : (الذين اتبعوك) أى صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى [ فوق الذين كفروا ] وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف
[ ثم الى مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ] أى ثم مصيركم الى الله فاقضي بين جميعكم بالحق ، فيما كنتم تختلفون فيه من امر عيسى
[ فاما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة ] أى اما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك ، فاني معذبهم عذابا شديدا في الدنيا بالقتل والسبي ، وبالاخرة بنار جهنم
[ وما لهم من ناصرين ] اي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله
[ واما الذين امنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم ] أى واما المؤمنون فيعطيهم جزاء اعمالهم الصالحة ، كاملة غير منقوصة
[ والله لا يحب الظالمين ] أى لا يحب من كان ظالما فكيف يظلم عباده ؟
[ ذلك نتلوه عليك ] أى هذه الانباء التي نقصها عليك يا محمد
[ من الايات والذكر الحكيم ] أى من ايات القران الكريم المحكم ، الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[ ان مثل عيسى عند الله كمثل ادم ] أى ان شان عيسى اذ خلقه بلا اب - وهو في بابه غريب -كشان ادم
[ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ] أى خلق ادم من غير اب ولا ام ، ثم قال له (كن ) فكان ، فليس امر عيسى باعجب من امر ادم ! !
[ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ] أى هذا هو القول الحق في شان عيسى فلا تكن من الشاكين
[ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ] أى من جادلك في امر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان
[ فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ] أى هلموا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم ابناءه ونساءه ونفسه الى (المباهلة)! ! وفي سنن الترمذي لما نزلت هذه الاية دعا رسول الله (ص) فاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم هؤلاء اهلى)
[ ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ] أى نتضرع الى الله فنقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ،
فلما دعاهم الى المباهلة ، امتنعوا وقبلوا بالجزية . قال ابن عباس : " لو خرج الذين يباهلون رسول الله (ص)
لرجعوا لا يجدون اهلا ولا مالا " قال ابو حيان : " وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه ، وهو شاهد عظيم على صحة نبوته " ثم قال تعالى
[ ان هذا لهو القصص الحق ] أى هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شان عيسى هو الحق الذي لا شك فيه
[ وما من اله الا الله ] أى لا يوجد اله غير الله ، وفيه رد على النصارى في قولهم بالتثليث
[ وان الله لهو العزيز الحكيم ] أى هو جل شانه العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه
[ فان تولوا فان الله عليم بالمفسدين ] أى ان اعرضوا عن الاقرار بالتوحيد فانهم مفسدون والله عليم بهم ، وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء .
البلاغة :
1 - [ فلما احس ] قال ابو حيان : فيها استعارة اذ الكفر ليس بمحسوس ، وانما يعلم ويفطن به ، فاطلاق الحس عليه من نوع الاستعارة .
2 - [ والله خير الماكرين ] بين لفظ مكروا والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة .
3- [ فيوفيهم اجورهم ] فيه التفات من ضمير التكلم الى ضمير الغيبة ، وهو ضرب من ضروب الفصاحة .
4 - [ الحق من ربك ] التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى الرسول لتشريفه عليه الصلاة والسلام .
5 - [ فلا تكن من الممترين ] هو من باب (الالهاب والتهييج ) لزيادة التثبيت افاده ابو السعود .
لطيفه :
قال صاحب البحر المحيط : سأل رجل الجنيد فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا ادري ما تقول ولكن انشدني فلان الظهراني : ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا ، ثم قال له : قد اجبتك ان كنت تعقل .
قال الله تعالى : [ قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء . . الى . . والله ذو الفضل العظيم ] من اية (64) الى نهاية اية (74)
المناسبه :
لما اقام القران الحجة على النصارى ، وابطل دعواهم في شان الوهية المسيح ، دعا الفريقين " اليهود والنصارى " الى التوحيد ، والاقتداء بابي الانبياء ابراهيم عليه السلام ، اذ كانت ملته الحنيفية السمحة وهي (ملة الاسلام ) ، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما زعم كل من الفريقين ، ثم بين ان احق الناس بالانتساب الى ابراهيم محمد(ص) وامته .
اللغة :
[ سواء ] السواء : العدل والنصف ، قال ابو عبيدة : يقال قد دعاك الى السواء فاقبل منه ، قال زهير : اروني خطة لاضيم فيها يسوى بيننا فيها السواء
[ اولى ] احق
[ ودت ] تمنت
[ تلبسون ] اللبس : الخلط ، يقال : لبس الامر عليه اذا اشتبه واختلط
[ وجه النهار ] اوله سمي وجها لانه اول ما يواجه من النهار ، قال الشاعر : من كان مسرورا بمقتل مالك فليات نسوتنا بوجه نهار
سبب النزول :
روي عن ابن عباس ان احبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله (ص) فتنازعوا في ابراهيم فقالت اليهود : ما كان ابراهيم الا (يهوديا) ، وقالت النصارى : ما كان الا (نصرانيا) فانزل الله تكذيبا لهم :
[ ما كان ابراهبم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ] الاية .
التفسير :
[ قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ] أى قل لهم يا معشر اليهود والنصارى : هلموا الى كلمة عادلة مستقيمة ، فيها انصاف وعدل ، نستوي نحن وانتم فيها
[ الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ] أى ان نفرد الله وحده بالعبادة ، ولا نجعل له شريكا
[ ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله ] أى لا يعبد بعضنا بعضا كما عبد اليهود والنصارى (عزيرا وعيسى) ، واطاعوا الاحبار والرهبان فيما احلوا لهم وحرموا ، روي ان الاية لما نزلت قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، فقال (ص) : " اما كانوا يحلون لكم ويحرمون فتاخذون بقولهم ؟ فقال : نعم ، فقال النبي (ص) : هو ذاك "
[ فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ] أى فان اعرضوا عن التوحيد ، ورفضوا قبول تلك الدعوة العادلة ،
فقولوا انتم : اشهدوا يا معشر اهل الكتاب باننا موحدون مسلمون ، مقرون لله بالوحدانية ، مخلصون له العبادة
[ يا اهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم ] أى يا معشر اليهود والنصارى لم تجادلون وتنازعون في ابراهيم وتزعمون انه على دينكم ؟
[ وما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده ] أى والحال انه ما حدثت هذه الاديان ، الا من بعده بقرون كثيرة ، فكيف يكون ابراهيم عليه السلام من اهلها ؟
[ افلا تعقلون ] بطلان قولكم ؟ فقد كان بين ابراهيم وموسى الف سنة ، وبين موسى وعيسى الفا سنة ، فكيف يقول بذلك عاقل ؟ والاستفهام للتوبيخ
[ ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ] أى ها انتم يا معشر اليهود والنصارى جادلتم وخاصمتم في شان عيسى ، وقد عشتم زمانه فزعمتم ما زعمتموه
[ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ] اي فلم تخاصمون وتجادلون قي شان ابراهيم ودينه ، وتنسبونه الى اليهودية او النصرانية بدون علم ؟ افليست هذه سفاهة وحماقة ؟
[ والله يعلم وانتم لا تعلمون ] أى والله يعلم الحق من امر ابراهيم وانتم لا تعلمون ذلك ، قال ابو حيان : " وهذا استدعاء لهم ان يسمعوا كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : اسمع فاني اعلم ما ، لا تعلم " . . ثم اكذبهم الله تعالى في دعوى ابراهيم فقال
[ ما كان أبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ] أى ما كان ابراهيم على دين (اليهودية) ولا على دين (النصرانية) ، فان اليهودية ملة محرفة عن شرع موسى ، وكذلك النصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى
[ ولكن كان حنيفا مسلما ] أى مائلا عن الاديان كلها الى الدين القيم
[ وما كان من المشركين ] أى كان مسلما ولم يكن مشركا ، وفيه تعريض بانهم مشركون في قولهم (عزير ابن الله) ، ورد لدعوى المشركين انهم على ملة ابراهيم
[ ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه ] اي احق الناس بالانتساب الى ابراهيم اتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده
[ وهذا النبي ] اي محمد (ص)
[ والذين امنوا ] أى المومنون من امة محمد (ص) فهم الجديرون بان يقولوا نحن على دينه لا انتم
[ والله ولى المؤمنين ] أى حافظهم وناصرهم . . ولما دعا اليهود بعض الصحابة الى اليهودية ، نزل قوله
[ ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم ] أى تمنوا اضلالكم بالرجوع الى دينهم حسدا وبغيا
[ وما يضلون الا انفسهم ] أى لا يعود وبال ذلك الا عليهم ، اذ يضاعف به عذابهم
[ وما يشعرون ] أى ما يفطنون لذلك ، ثم وبخهم القران على فعلهم القبيح فقال
[ يا اهل الكتاب لم تكفرون بايات الله ] أى لم تكفرون بالقران المنزل على محمد (ص)
[ وانتم تشهدون ] أى تعلمون انه حق ؟
[ يا اهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ] أى لم تخلطون بين الحق والباطل ، بالقاء الشبه والتحريف والتبديل ؟
[ وتكتمون الحق وانتم تعلمون ] أى تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد (ص) وانتم تعلمون ذلك . . ثم حكى تعالى نوعا اخر من مكرهم وخبثهم ، وهو ان يظهروا الاسلام في اول النهار ، ثم يرتدوا عنه في اخره ، ليشككوا الناس في دين الاسلام فقال سبحانه :
[ وقالت طائفة من اهل الكتاب امنوا بالذي انزل على الذين امنوا وجه النهار ] قال ابن كثير : وهذه مكيدة ارادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس امر دينهم ، وهو انهم تشاوروا بينهم ان يظهروا الايمان اول النهار ، ويصلوا مع المسلمين ، فاذا جاء اخر النهار ، ارتدوا الى دينهم ، ليقول الجهلة من الناس : انما ردهم الى دينهم ، اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين .
[ واكفروا اخره ] أى اكفروا بالاسلام اخر النهار
[ لعلهم يرجعون ] أى لعلهم يشكون في دينهم فيرجعون عنه
[ ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم ] هذا من تتمة كلام اليهود حكاه الله عنهم والمعنى : لا تصدقوا ولا تظهروا سركم وتطمئنوا لأحد الا اذا كان على دينكم
[ قل ان الهدى هدى الله ] أى قل لهم يا محمد : الهدى ليس بأيديكم وانما الهدى هدى الله ، يهدي من يشاء الى الايمان ، ويثبته عليه كما هدى المؤمنين ، والجملة اعتراضية . . ثم ذكر تعالى بعد ذلك الاعتراض بقية كلام اليهود فقال
[ ان يؤتى احد مثل ما اوتيتم او يحاجوكم عند ربكم ] أى يقول اليهود بعضهم لبعض : لا تصدقوا الا لمن تبع دينكم ، وانظروا فيمن ادعى النبوة ، فان كان متبعا لدينكم فصدقوه والا فكذبوه ، ولا تقروا ولا تعترفوا لأحد بالنبوة ، الا اذا كان على دينكم ، خشية ان يؤتى احد مثل ما اوتيتم ، وخشية ان يحاجوكم به عند ربكم ، فاذا اقررتم بنبوة محمد ولم تدخلوا في دينه ، تكون له الحجة عليكم يوم القيامة ، وغرضهم نفى النبوة عن رسول الله (ص)
[ قل ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ] أى قل لهم يا محمد : امر النبوة ليس اليكم ، وانما هو بيد الله والفضل والخير كله بيد الله يؤتيه من يشاء
[ والله واسع عليم ] أى كثير العطاء واسع الانعام ، يعلم من هو اهل له
[ يختص برحمته من يشاء ] أى يختص بالنبوة من شاء
[ والله ذو الفضل العظيم ] أى فضله واسع عظيم لا يحد ولا يمنع .
البلاغة :
جمعت هذه الايات من ضروب الفصاحة والبلاغة ما ياتي :
- المجاز في قوله [ الى كلمة ] حيث اطلق اسم الواحد على كلمة التوحيد " لا اله الا الله ، محمد رسول الله " ،
- والتشبيه في قوله [ اربابا ] حيث شبه طاعتهم لرؤساء الدين في امر التحليل ، بالرب المستحق للعبادة ،
- والطباق في قوله [ الحق بالباطل ]
- والجناس التام في قوله [ يضلونكم وما يضلون ]
- وجناس الاشتقاق في [ اولى ] و[ ولى ]
- والتكرار في عدة مواطن ، والحذف في عدة مواطن .
فائدة :
كتب رسول الله (ص) كتابا الى (هرقل ) ملك الروم يدعوه فيه الى الاسلام واستشهد فيه بالاية الكريمة التي فيها اخلاص الدعوة لعبادة الله وحده ، ونص الكتاب كما هو في صحيح مسلم " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى اما بعد : فاني ادعوك بدعاية الاسلام ، اسلم تسلم ، واسلم يؤتك الله اجرك مرتين ، فان توليت فان عليك اثم الاريسيين - يعني الفلاحين والخدم - و[ يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ] .
قال الله تعالى : [ ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك . . الى . . ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون ] من اية (75) الى نهاية اية ( 80) .
المناسبة :
لما حكى تعالى قبائح اهل الكتاب ، وما هم عليه من الخبث والكيد والمكر ، اعقبه بذكر بعض اوصاف اليهود خاصة وهي خيانتهم من الناحيتين : المالية والدينية ، فقد خانوا الله والناس بتحريفهم كلام الله عن معناه ، واستحلالهم اكل اموال الناس بالباطل .
اللغة :
[ قنطار ] القنطار المال الكثير وقد تقدم
[ قائما ] ملازما ومداوما على مطالبته
[ الاميين ] المراد بهم العرب ، واصل الامي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، والعرب كانوا كذلك
[ يلوون ] من اللي وهو اللف والفتل تقول : لويت يده اذا فتلتها ، والمراد انهم يفتلون السنتهم ليميلوا عن الايات المنزلة الى العبارات المحرفة
[ لا خلاق ] أى لا نصيب لهم من رحمة الله
[ ربانيين ] جمع رباني وهو المنسوب الى الرب ، قال الطبري معناه : كونوا حلماء علماء فقهاء ، وهذا القول مروى عن ابن عباس رضي الله عنه .
سبب النزول :
عن الاشعث بن قيس قال : كان بينى وبين رجل من اليهود ارض ، فجحدني فقدمته الى النبي (ص) فقال لي رسول الله (ص) : هل لك بينة ؟ قلت : لا ، قال اليهودي : احلف ، قلت : اذا يحلف فيذهب بمالي فانزل الله [ ان الذين يشترون بعهد الله . . ] الاية .
التفسير :
[ ومن اهل الكتاب من ان تامنه بقنطار يؤده اليك ] أى من اليهود من اذا ائتمنته على المال الكثير ، اداه اليك لامانته " كعبد الله بن سلام " اودعه قرشي الف اوقية ذهبا فاداها اليه
[ ومنهم من ان تامنه بدينار لا يؤده اليك ] أى ومنهم من لا يؤتمن على دينار لخيانته " كفنحاص بن عازوراء " ائتمنه
قرشي على دينار فجحده
[ الا ما دمت عليه قائما ] أى الا اذا كنت ملازما له ومشهدا عليه
[ ذلك بانهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ] أى انما حملهم على الخيانة زعمهم ان الله اباح لهم اموال الاميين -
يعني العرب - روي ان اليهود قالوا [ نحن ابناء الله واحباؤه ] والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لاحد علينا اذا اكلنا اموال عبيدنا ، وقيل : انهم قالوا ان الله اباح لنا مال من خالف ديننا
[ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] أى يكذبون على الله بادعائهم ذلك ، وهم يعلمون انهم كاذبون مفترون ، روي انهم لما قالوا [ ليس علينا في الاميين سبيل ] قال نبي الله (ص) : (كذب اعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية الا هو تحت قدمي هاتين ، الا الامانة فانها مؤداة الى البر والفاجر) ، ثم قال تعالى :
[ بلى من اوفى بعهده واتقى فأن الله يحب المتقين ] أى ليس كما زعموا بل عليهم فيه اثم ، لكن من ادى الامانة منهم وامن بمحمد (ص) واتقى الله واجتنب محارمه ، فان الله يحبه ويكرمه
[ ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا ] أى يستبدلون بالعهد الذي عاهدوا عليه من التصديق بمحمد وبأيمانهم الكاذبة ، حطام الدنيا وعرضها الخسيس الزائل
[ اولئك لا خلاق لهم في الاخرة ] أى ليس لهم حظ ولا نصيب من رحمة الله تعالى :
[ ولايكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ] أى لا يكلمهم كلام انس ولطف ، ولا ينظر اليهم بعين الرحمة يوم القيامة
[ ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم ] أى لا يطهرهم من اوضار الاوزار ، ولهم عذاب موجع على ما ارتكبوه من المعاصى
[ وان منهم لفريقا يلوون السنتهم بالكتاب ] اي وان من اليهود طائفة يفتلون السنتهم في حال قراءة الكتاب ، لتحريف معانيه وتبديل كلام الله عن المراد منه ، قال ابن عباس : يحرفونه بتأويله على غير مراد الله
[ لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ] اي لتظنوا ان هذا المحرف من كلام الله وما هو الا تضليل وبهتان
[ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ] أى ينسبونه الى الله وهو كذب على الله
[ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] انهم كذبوا وافتروا على الله . . ثم قال تعالى ردا على النصارى لما زعموا ان عيسى امرهم ان يعبدوه
[ ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ] أى لا يصح ولا ينبغي لاحد من البشر اعطاه الله الكتاب والحكمة والنبوة
[ ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ] أى ثم يقول للناس اعبدوني من دون الله ، والغرض : انه لا يصح اصلا ولا يتصور عقلا صدور دعوى الالوهية من نبي قط اعطاه الله النبوة والشريعة ليرشد الناس الى عبادة الله ، فكيف يدعوهم الى عبادة نفسه ؟
[ ولكن كونوا ربانيين ] أى ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين ، قال ابن عباس : حكماء علماء حلماء والمعنى : لا ادعوكم الى ان تكونوا عبادا لي ولكن ادعوكم ان تكونوا علماء فقهاء مطيعين لله
[ بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ] أى بتعليمكم الناس الكتاب ودراستكم اياه
[ ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا ] أى وما كان له ان يأمركم بعبادة غير الله - ملائكة او انبياء - لان مهمة الرسل الدعوة الى الله واخلاص العبادة له
[ ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون ] أى ايامركم نبيكم بالكفر وجحود وحدانية الله ، بعد ان اسلمتم ودخلتم في دين الله ؟ والاستفهام انكاري تعجبي ، أى لا يتصور هذا اصلا .
البلاغة :
1 - [ ذلك بأنهم قالوا ] الاشارة بالبعيد للايذان بكمال غلوهم فى الشر والفساد .
2 - [ ليس علينا في الاميبن سبيل ] فيه ايجاز بالحذف أى ليس علينا في أكل اموال الاميين سبيل .
3 - [ يشترون بعهد الله ] فيه استعارة فقد استعار لفظ الشراء للاستبدال .
4 - [ ولا يكلمهم الله ] بيان عن شدة غضبه وسخطه تعالى عليهم وكذلك في الاتي بعدها .
5 - [ ولا ينظر اليهم ] قال الزمخشري : مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم لان من اعتد بأنسان التفت اليه وأعاره نظر عينيه .
6 - بين لفظ [ اتقى ] و[ المتقين ] جناس الاشتقاق وبين لفظ [ الكفر ] و[ مسلمون ] طباق .
فائدة :
روي ان رجلا قال لابن عباس : " انا نصيب في الغزو من اموال اهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فماذا تقولون ؟ قالوا : نقول ليس علينا بذلك بأس ، قال : هذا كما قال اهل الكتاب [ ليس علينا في الاميين سبيل ] انهم اذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم الا بطيب انفسهم " .
قال تعالى : [ وأذ اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتاب وحكمة . . . الى ... وما لهم من ناصرين ] من اية ( 81) الى نهاية اية ( 90)
المناسبة :
لما ذكر تعالى خيانة اهل الكتاب بتحريفهم كلام الله عن مواضعه ، وتغييرهم اوصاف رسول الله (ص) الموجودة في كتبهم حتى لا يؤمنوا به ، ذكر تعالى هنا ما تقوم به الحجة عليهم ، وهو ان الله قد اخذ الميثاق على انبيائهم ان يؤمنوا بمحمد (ص) ان ادركوا حياته ، وان يكونوا من اتباعه وانصاره ، فاذا كان الانبياء قد اخذ عليهم العهد ان يؤمنوا به ويبشروا بمبعثه فكيف يصح من اتباعهم التكذيب برسالته ؟ ثم ذكر تعالى ان الايمان بجميع الرسل شرط لصحة الايمان ، وبين ان الاسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله دينا سواه .
اللغه :
[ ميثاق ] الميثاق : العهد المؤكد بيمين ونحوه وقد تقدم
[ اصري ] عهدي واصله في اللغة الثقل قال الزمخشري : وسمي اصرا لانه مما يؤصر أى يشد ويعقد
[ الفاسقون ] الخارجون عن طاعة الله
[ طوعا ] انقيادا عن رغبة
[ كرها ] اجبارا وهو كاره
[ الاسباط ] جمع سبط وهو ابن الابن والمراد به هنا قبائل بني اسرائيل من اولاد يعقوب
[ ينظرون ] يمهلون يقال : انظره يعني امهله والنظرة الامهال
[ الخاسرون ] الخسران : انتقاص رأس المال يقال : خسر فلان أى أضاع من رأس ماله
[ الضالون ] التائهون في مهامه الكفر .
سبب النزول :
عن ابن عباس قال : ارتد رجل من الانصار عن الاسلام ، ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل الى قومه : سلوا لي رسول الله (ص) هل لي من توبة فاني قد ندمت ؟ فنزلت الاية [ كيف يهدي الله قوما كفروا . . . الى قوله . . . الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ] فكتب بها قومه اليه فرجع فأسلم .
التفسير :
[ واذ اخذ الله ميثاق النبيين ] أى اذكروا يا اهل الكتاب حين اخذ الله العهد المؤكد على النبيين
[ لما اتيتكم من كتاب وحكمة ] أى لمن أجل ما اتيتكم من الكتاب والحكمة ، قال الطبري : المعنى لمهما اتيتكم ايها النبيون من كتاب وحكمة
[ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ] أى ثم جاءكم رسول من عندي بكتاب مصدق لما بين ايديكم ، وهو (محمد) (ص)
[ لتؤمنن به ولتنصرنه ] أى لتصدقنه ولتنصرنه ، قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا من الانبياء الا اخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وامره ان ياخذ الميثاق على امته
[ قال أأقررتم واخذتم على ذلكم اصري ] اي " أأقررتم واعترفتم بهذا الميثاق واخذتم عليه عهدي ؟
[ قالوا اقررنا ] أى اعترفنا
[ قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين ] أى اشهدوا على انفسكم وأتباعكم ، وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم
[ فمن تولى بعد ذلك ] أى اعرض ونكث عهده
[ فاولئك هم الفاسقون ] أى هم الخارجون عن طاعة الله
[ افغير دين الله يبغون ] الهمزة للانكار التوبيخي أى ايبتغى اهل الكتاب دينا غير الاسلام ، الذي ارسل الله به رسله ؟
[ وله اسلم من في السموات والارض ] أى ولله استسلم وانقاد وخضع اهل السموات والارض
[ طوعا وكرها ] أى طائعين ومكرهين قال قتادة : المؤمن اسلم طائعا ، والكافر اسلم كارها حين لا ينفعه ذلك ، قال ابن كثير : فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله طوعا ، والكافر مستسلم لله كرها ، فأنه تحت التسخير والقهر ، والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع
[ واليه يرجعون ] أى يوم المعاد فيجازي كلا بعمله
[ قل امنا بالله وما انزل علينا ] أى قل يا محمد انت وأمتك امنا بالله وبالقران المنزل علينا
[ وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط ] أى وامنا بما انزل على هؤلاء من الصحف والوحي ، والاسباط هم بطون بني اسرائيل المتشعبة من اولاد يعقوب
[ وما اوتى موسى وعيسى ] أى من التوراة والانجيل
[ والنبيون من ربهم ] أى وما انزل على الانبياء جميعهم
[ لا نفرق بين احد منهم ] أى لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى ، بل نؤمن بالكل
[ ونحن له مسلمون ] اي مخلصون في العبادة مقرون له بالالوهية والربوبية ، لا نشرك معه احدا ابدا . . ثم اخبر تعالى بأن كل دين
غير الاسلام باطل ومرفوض فقال
[ ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ] أى من يطلب شريعة غير شريعة الاسلام ، بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ليدين بها فلن يتقبل الله منه
[ وهو في الاخرة من الخاسرين ] أى مصيره الى النار مخلدا فيها
[ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم ] استفهام للتعجيب والتعظيم من كفرهم ، أى كيف يستحق الهداية قوم كفروا بعد ايمانهم ؟
[ وشهدوا ان الرسول حق ] اي بعد ان جاءتهم الشواهد ووضح لهم الحق أن محمدا رسول الله
[ وجاءهم البينات ] أى جاءتهم المعجزات والحجج البينات على صدق النبي
[ والله لا يهدي القوم الظالمين ] أى لا يوفقهم لطريق السعادة ، قال الحسن : هم اليهود والنصارى رأوا صفة محمد (ص) في كتابهم ، وشهدوا انه حق ، فلما بعث من غيرهم ، حسدوا العرب فكفروا بعد ايمانهم
[ اولئك جزاوهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ] أى جزاؤهم على كفرهم اللعنة من الله والملائكة والخلق اجمعين
[ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ] أى ماكثين في النار ابد الابدين ، لا يفتر عنهم العذاب ولا هم يمهلون
[ الا الذبن تابوا من بعد ذلك واصلحوا ] أى الا من تاب واناب واصلح ما افسد من عمله
[ فان الله غفور رحيم ] أى متفضل عليه بالرحمة والغفران
[ ان الذين كفروا بعد أيمانهم ثم ازدادوا كفرا ] نزلت في اليهود كفروا بعيسى بعد ايمانهم بموسى ، ثم ازدادوا كفرا حيث كفروا بمحمد والقران
[ لن تقبل توبتهم ] أى لا تقبل منهم توبة ما اقاموا على الكفر
[ واولئك هم الضالون ] أى الخارجون عن منهج الحق الى طريق الغي . . ثم اخبر تعالى عمن كفر ومات على الكفر فقال
[ ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار ] أى كفروا ثم ماتوا على الكفر ولم يتوبوا ، وهو عام في جميع الكفار
[ فلن يقبل من احدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به ] أى لن يقبل من احدهم فدية ولو افتدى بملء الارض ذهبا
[ اولئك لهم عذاب اليم ] أى مؤلم موجع
[ وما لهم من ناصرين ] أى ليس لهم احد ينقذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه !
البلاغة :
1- الالتفات [ لما اتبتكم ] فيه التفات من الغيبة الى الحاضر لأن قبله [ ميثاق النبيين ] .
2 - بين لفظ [ اشهدوا ] و[ الشاهدين ] جناس الاشتقاق وكذلك بين لفظ [ كفروا ] و[ كفرا ] وهو من المحسنات البديعية .
3 - الطباق بين [ طوعا ] و[ كرها ] وكذلك بوجد الطباق بين لفظ الكفر والايمان .
4 - [ واولئك هم الضالون ] قصر صفة على موصوف ومثله [ فاولئك هم الفاسقون ] .
5 - [ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون ] هو من باب عطف العام على الخاص ، لتعميم الحكم وبيان وحدة المرسلين .
6 - [ ولهم عذاب اليم ] أى مؤلم والعدول الى صيغة " فعيل " للمبالغة .
فائدة :
الايات الكريمة قسمت الكفار الى ثلاثة اقسام :
ا - قسم تاب توبة صادقة فنفعته ، واليهم الاشارة بقوله [ الا الذين تابوا من بعد ذلك ] .
2 - وقسم تاب توبة فاسدة فلم تنفعه ، واليهم الاشارة بقوله [ كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا ] .
3 - وقسم لم يتب أصلا ومات على الكفر ، واليهم الاشارة بقوله [ ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من احدهم ملء الارض ذهبا. . ] .
تنبيه :
روى الشيخان عن انس بن مالك ان النبي (ص) قال : " يقال للرجل من اهل النار يوم القيامة : ارأيت لو كان لك ملء الارض ذهبا اكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم ، فيقول الله : قد اردت منك ما هو اهون من ذلك ، قد اخذت عليك في ظهر ابيك ادم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت الا ان تشرك " .
قال الله تعالى : [ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . . الى . . اياته لعلكم تهتدون ] من اية (92) !لى نهاية اية (103)
المناسبة :
لما ذكر تعالى حال الكفار ومآلهم في الاخرة ، وبين ان الكافر لو اراد أن يفتدى نفسه بملء الارض ذهبا ما نفعه ذلك ، ذكر هنا - استطراد - ما ينفع المؤمن لنيل رضى الله والفوز بالجنة ، ثم عاد الكلام لدفع الشبهات التي اوردها اهل الكتاب حول (النبوة والرسالة) ، ثم جاء بعده التحذير من مكائدهم ودسائسهم التي يدبرونها للاسلام والمسلمين .
اللغة :
[ البر ] كلمة جامعة لوجوه الخير والمراد بها هنا الجنة
[ حلا ] حلالا وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث
[ اسرائيل ] هو يعقوب عليه السلام
[ بكة ] اسم لمكة فتسمى " بكة " و " مكة " سميت بذلك لانها تبك أى تدق اعناق الجبابرة فلم يقصدها جبار بسوء الا قصمه الله
[ مباركا ] البركة : الزيادة وكثرة الخير
[ مقام ابراهبم ] محل قيام ابراهيم وهو الحجر الذي قام عليه لما ارتفع بناء البيت
[ عوجا ] العوج : الميل ، قال ابو عبيدة : بالكسر ، في الدين والكلام والعمل ، وبالفتح عوج ، في الحائط والجذع
[ يعتصم ] يتمسك ويلتجىء وأصله المنع ، قال القرطبي : وكل متمسك بشيء معتصم ، وكل مانع شيئا فهو عاصم [ قال لا عاصم اليوم من امر الله ]
[ شفا ] الشفا : حرف كل شيء وحده ، ومثله الشفير ، وشفا الحفرة : حرفها قال تعالى [ على شفا جرف هار ] .
سبب النزول :
يروى ان " شاس بن قيس " اليهودي مر على نفر من الانصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم ، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال : ما لنا معهم اذا اجتمعوا من قرار ، ثم امر شابا من اليهود أن يجلس اليهم ويذكرهم يوم " بعاث " وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار- وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس - ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا ، وقالوا : السلاح السلاح ، فبلغ النبى (ص) فخرج اليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالاسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم " ؟ فعرف القوم أنها كانت نزعة من الشيطان ، وكيدا من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ، ثم أنصرفوا مع رسول الله (ص) سامعين مطيعين ، فأنزل الله عز وجل [ يا أيها الذين أمنوا أن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا ا لكتاب ] ألاية .
التفسير :
[ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ] أى لن تكونوا من ألابرار ، ولن تدركوا الجنة حتى تنفقوا من أفضل أموالكم
[ وما تنفقوا من شيء فأن الله به عليم ] أى وما تبذلوا من شيء في سبيل الله فهو محفوظ لكم تجزون عنه خير الجزاء
[ كل الطعام كان حلا لبني أسرائيل ] أى كل الأطعمة كانت حلالا لبني اسرائيل
[ الا ما حرم اسرائيل على نفسه ] أى الا ما حرمه يعقوب على نفسه ، وهو لحم الابل ولبنها ، ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم
[ من قبل أن تنزل التوراة ] أى كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة
[ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين ] أي قل لهم يا محمد أئتوني بالتوراة واقرءوها على ، ان كنتم صادقين في دعواكم أنها لم تحرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ، قال الزمخشري : وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله ، فلما حاجهم بكتابهم وبكتهم ، بهتوا وانقلبوا صاغرين ، ولم يجسر أحد منهم على اخراج التوراة ، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي (ص)
[ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك ] أي اختلق الكذب من بعد قيام الحجة وظهور البينة
[ فأولئك هم الظالمون ] أى المعتدون المكابرون بالباطل
[ قل صدق الله ] أى صدق الله في كل ما أوحى الى محمد وفي كل ما أخبر عنه
[ فاتبعوا ملة ابراهيم ] اي اتركوا اليهودية واتبعوا ملة الاسلام التي هي ملة ابراهيم
[ حنيفا ] أى مائلا عن الاديان الزائفة كلها
[ وما كان من المشركين ] برأه الله مما نسبه اليهود والنصارى اليه من اليهودية والنصرانية ، وفيه تعريض بإشراكهم
[ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ] أى أول مسجد بني في الأرض لعبادة الله المسجد الحرام الذي هو بمكة
[ مباركا وهدى للعالمين ] أى وضع مباركا كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره ، ومصدر الهداية والنور لاهل الأرض لأنه قبلتهم ، ثم عدد تعالى من مزاياه ما يستحق تفضيله على جميع المساجد فقال
[ فيه آيات بينات مقام أبراهيم ] أى فيه علامات واضحات كثيرة ، تدل على شرفه وفضله على سائر المساجد منها [ مقام إيراهيم ] وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، وفيه زمزم والحطيم ، وفيه الصفا والمروة والحجر الأسود ، أفلا يكفى برهانا على شرف هذا البيت وأحقيته ، أن يكون قبلة للمسلمين ؟
[ ومن دخله كان آمنا ] وهذه آية أخرى ، وهي الأمن والأمان لمن دخل الحرم بدعوة الخليل إبراهيم [ رب اجعل هذا البلد آمنا ]
[ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ] اي فرض لازم على المستطيع حج بيت الله العتيق
[ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ] أى من ترك الحج فإن الله مستغن عن عبادته وعن الخلق أجمعين ، وعبر عنه بالكفر تغليظا عليه ، قال ابن عباس : من جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنة ، ثم أخذ يبكت أهل الكتاب على كفرهم فقال
[ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ] أى لم تجحدون بالقرآن المنزل على محمد (ص) ، مع قيام الدلائل والبراهين على صدقه ؟
[ والله شهيد على ما تعملون ] أى مطلع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها
[ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ] أى لم تصرفون الناس عن دين الله الحق ، وتمنعون من أراد الإيمان به ؟
[ تبغونها عوجا ] أى تطلبون أن تكون الطريق المستقيمة معوجة ، وذلك بتغيير صفة الرسول ، والتلبيس على الناس بإيهامهم أن في الإسلام خللا وعوجا
[ وأنتم شهداء ] أى عالمون بأن الإسلام هو الحق والدين المستقيم
[ وما الله بغافل عما تعملون ] تهديد ووعيد . . وقد جمع اليهود والنصارى الوصفين : الضلال والإضلال ، فقد كفروا بالإسلام ، ثم صدوا الناس عن الدخول فيه ، بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من الناس
[ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ] أي إن تطيعوا طائفة من أهل الكتاب
[ يردوكم بعد ايمانكم كافرين ] أى يصيرونكم كافرين بعد أن هداكم الله للإيمان ، والخطاب للاوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم كما مر في سبب النزول ، واللفظ في الآية عام
[ وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ] إنكار واستبعاد أى كيف يتطرق إليكم الكفر والحال أن أيات الله لا تزال تتنزل عليكم ، والوحي لم ينقطع ، ورسول الله حى بين أظهركم ؟
[ ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ] أى من يتمسك بالإسلام الحق الذي بينه الله بآياته ، على لسان رسوله ، فقد اهتدى إلى أقوم طريق ، وهي الطريق الموصلة ألى جنات النعيم
[ با أيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته ] أى اتقوا الله تقوى حقة أو حق تقواه ، قال ابن مسعود : " هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر " والمراد بالآية [ حق تقاته ] أى كما يحق أن يتقى وذلك باجتناب جميع معاصيه
[ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] أى تمسكوا بالإسلام وعضوا عليه بالنواجذ ، حتى يدرككم الموت وأنتم على تلك الحالة فتموتون على الإسلام ، والمقصود الأمر بالإقامة والمحافظة على الإسلام
[ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ] أى تمسكوا بدين الله وكتابه جميعا ولا تتفرقوا عنه ، ولا تختلفوا في الدين كما اختلف من قبلكم من اليهود والنصارى
[ واذكروا نعمة الله عليكم ] أى أذكروا إنعامه عليكم يا معشر العرب
[ اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ] أى حين كنتم قبل الإسلام أعداء ألداء ، فألف بين قلوبكم بالإسلام وجمعكم على الإيمان
[ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ] أى وكنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم ، فأنقذكم الله منها بالإسلام
[ كذلك يبين الله لكم آياته ] أى مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر الآيات
[ لعلكم تهتدون ] أى لكي تهتدوا بها إلى سعادة الدارين .
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البلاغة نوجزها فيما يلي :
1 - [ قل فأتوا بالتوراة ] الأمر للتبكيت والتوبيخ للدلالة على كمال القبح .
2 - [ للذي ببكة ] أى لبيت الله الحرام الذي بمكة الذي ببكة ، وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لايخفى.
3 - [ ومن كفر ] وضع هذا اللفظ موضع " ومن لم يحج ، تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ، قال أبو السعود : " ولقد حازت الأية الكريمة من فنون الاعتبارات ما لا مزيد عليه وهي قوله [ ولله على الناس حج البيت ] حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق ، وأبرزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار ، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس ، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص ، والإبهام ثم التبيين ، والإجمال ثم التفصيل " .
4 - [ واعتصموا بحبل الله ] شبه القرآن بالحبل واستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو (القرآن ) على سبيل الاستعارة التصريحية ، والجامع بينهما النجاة في كل
5 - [ شفا حفرة ] شبه حالهم الذي كانوا عليه بالجاهلية بحال من كان مشرفا على حفرة عميقة وهوة سحيقة ، ففيه (استعارة تمثيلية) والله أعلم .
تنبيه :
وردت الأيات الكريمة لدفع شبهتين من شبه أهل الكتاب : الشبهة الأولى : أنهم قالوا للنبى (ص) أنك تدعي أنك على دين أبراهيم وقد خالفت شريعته ، فانت تبيح لحوم الأبل مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم ؟ فرد الله عليهم ذلك بقوله [ كل الطعام كان حلا لبني أسرائيل ] الأية . الشبهة الثانية : قالوا أن " بيت المقدس " قبلة جميع الأنبياء وهو أول المساجد ، واحق بالأستقبال ، فكيف تترك يا محمد التوجه إليه ، ثم تزعم أنك مصدق لما جاء به الأنبياء ؟ فرد الله تعالى بقوله [ ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة ] الأية .
قال تعالى : [ ولتكن منكم أمة يدعون ألى الخير . . الى قوله . . بما عصوا وكانوا يعتدون ] من أية (104) إلى نهاية أية (112)
المناسبة :
لما حذر تعالى من مكايد أهل الكتاب ، وأمر بالأعتصام بحبل الله والتمسك بشرعه القويم ، دعا المؤمنين إلى القيام بواجب الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وامر بالائتلاف وعدم الاختلاف ، ثم ذكر ما حل باليهود من الذل والصغار بسبب البغي والعدوان .
اللغة :
[ أمة ] طائفة وجماعة
[ البينات ] الأيات الواضحات
[ المعروف ] ما أمر به الشرع واستحسنه العقل السليم
[ المنكر ] ما نهى عنه الشرع واستقبحه العقل السليم
[ الأدبار ] جمع دبر وهو مؤخر كل شيء ، يقال : ولاه دبره أى هرب من وجهه
[ ثقفوا ] وجدوا وصودفوا
[ حبل من الله ] الحبل معروف والمراد به هنا : العهد ، وسمي حبلا لأنه سبب يحصل به الأمن وزوال الخوف
[ باءوا ] رجعوا
[ المسكنة ] الفقر .
التفسير :
[ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ] أى ولتقم منكم طائفة للدعوة إلى الله
[ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ] أى للامر بكل معروف والنهي عن كل منكر
[ واولئك هم المفلحون ] أي هم الفائزون
[ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ] أى لا تكونوا كاليهود والنصارى الذين تفرقوا في الدين ، واختلفوا فيه بسبب أتباع الهوى ، من بعد ما جاءتهم الأيات الواضحات
[ واولئك لهم عذاب عظيم ] أى لهم بسبب الأختلاف عذابب شديد يوم ألقيامة
[ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ] أى يوم القيامة تبيض وجوه المؤمنين بالأيمان والطاعة ، وتسود وجوه الكافرين بالكفر والمعاصي
[ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ] هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال ، والمعنى : أما أهل النار الذين أسودت وجوههم فيقال لهم على سبيل التوبيخ : أكفرتم بعد إيمانكم أى بعد ما وضحت لكم الأيات والدلائل
[ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ] أى ذوقوا العذاب الشديد بسبب كفركم
[ واما الذين أبيضت وجوههم ] أى وأما السعداء الأبرار الذين أبيضت وجوههم باعمالهم الصالحات
[ ففي رحمة الله هم فيها خالدون ] اى فهم في الجنة مخلدون ، لا يخرجون منها ابدا
[ تلك ايات الله نتلوها عليك بالحق ] اى هذه ايات الله نتلوها عليك يا محمد حال كونها متلبسة بالحق
[ وما الله يريد ظلما للعالمين ] اى وما كان الله ليظلم احدا ولكن الناس انفسهم يظلمون
[ ولله ما في السموات وما في الأرض ] اى الجميع ملك له وعبيد
[ وإلى الله ترجع الأمور ] اى هو الحاكم المتصرف في الدنيا والأخرة
[ كنتم خير امة اخرجت للناس ] اى انتم يا امة محمد خير الأمم ، لانكم انفع الناس للناس ، ولهذا قال [ اخرجت للناس ] اى اخرجت لأجلهم ومصلحتهم ، روى البخاري عن أبى هريرة [ كنتم خير امة اخرجت للناس ] قال : (خير الناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام )
[ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ] وهذا بيان لوجه الخيرية كأنه قيل السبب في كونكم خير أمة ، هذه الخصال الحميدة ، روي عن عمر رضي الله عنه انه قال (من سره ان يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها) . ثم قال تعالى
[ ولو آمن اهل الكتاب لكان خيرا لهم ] اي لو امنوا بما انزل على محمد وصدقوا بما جاء به ، لكان ذلك خيرا لهم في الدنيا والأخرة
[ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ] أى منهم فئة قليلة مؤمنة كالنجاشي و(عبد الله بن سلام ) ، والكثرة الكثيرة فاسقة خارجة عن طاعة الله ،
[ لن يضروكم إلا أذى ] أى لن يضروكم إلا ضررا يسيرا بألسنتهم ، من سب وطعن
[ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ] اى ينهزمون من غير ان ينالوا منكم شيئا
[ ثم لا ينصرون ] اى ثم شأنهم الذي ابشركم به ، انهم مخذولون لا ينصرون ، والجملة استئنافية
[ ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا ] اي لزمهم الذل والهوان اينما وجدوا ، وأحاط بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه
[ إلا بحبل من الله وحبل من الناس ] اى إلا اذا اعتصموا بذمة الله وذمة احد من المسلمين ، قال ابن عباس : بعهد من الله وعهد من الناس
[ وباءوا بغضب من الله ] اى رجعوا مستوجبين للغضب الشديد من الله
[ وضربت عليهم المسكنة ] اى لزمتهم الفاقة والخشوع ، فهي محيطة بهم من جميع جوانبهم
[ ذلك بانهم كانوا يكفرون بايات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ] اى ذلك الذل والصغار ، والغضب والدمار ، بسبب جحودهم بايات الله ، وقتلهم الأنبياء ظلما وطغيانا
[ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ] اى بسبب تمردهم وعصيانهم اوامر الله تعالى .
البلاغة :
تضمنت الأيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
1 - [ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ] فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة .
2 - [ واولئك هم المفلحون ] فيه قصر صفة على موصوف حيث قصر الفلاح عليهم ، كانه يقول : هم المفلحون لا غيرهم .
3 - [ تبيض وجوه وتسود وجوه ] بين كلمتي [ تبيض ] و[ تسود ] طباق .
4 - [ ففي رحمة الله ] مجاز مرسل اطلق الحال واريد المحل أى ففي الجنة لأنها مكان تنزل الرحمة .
5 - [ ضربت عليهم الذلة ] فيه استعارة حيث شبه الذل بالخباء المضروب على اصحابه ، فالذذ .محيط بهم من كل جانب ، فهي استعارة لطيفة بديعة.
6 - [ وباءو بغضب ] التنكير للتفخيم والتهويل .
فائدة :
قوله تعالى [ ثم لا ينصرون ] جملة مستأنفة ولهذا ثبتت فيها النون ، قال الزمخشري : " وعدل به عن حكم الجزاء الى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل : ثم اخبركم انهم مخذولون منتف عنهم النصر ، ولو جزم لكان نفى النصر مقيدا لقتالهم ، بينما النصر وعد مطلق
تنبيه :
الاختلاف الذي اشارت إليه الآية [ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ] انما يراد به الاختلاف في (العقيدة) وفي (أصول الدين ) ، واما الاختلاف في (الفروع ) كما اختلف الأئمة المجتهدون ، فذلك من اليسر في الشريعة ، كما نبه على ذلك العلماء ، ولابن تيمية رحمه الله رسالة قيمة اسماها " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " فارجع اليها فإنها رائعة ومفيدة .
قال الله تعالى : [ ليسوا سواء من اهل الكتاب امة. . الى . . إن الله بما يعملون محيط ] من اية (113) الى نهاية آية ( 120)
المناسبة :
لما وصف تعالى اهل الكتاب بالصفات الذميمة ، ذكر هنا انهم ليسوا بدرجة واحدة ، ففيهم المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، ثم ذكر تعالى عقاب الكافرين وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم يوم القيامة شيئا ، واعقب ذلك بالنهي عن اتخاذ أعداء الدين أولياء ، ونبه إلى ما في ذلك من الضرر الجسيم في الدنيا والدين .
اللغة :
[ آناء ] اوقات وساعات مفردها " إنى " على وزن " معى "
[ يكفروه ] يجحدوه من الكفر بمعنى الجحود ، سمي منع الجزاء كفرا لأنه بمنزلة الجحد والستر
[ صر ] الصر : البرد الشديد ، قاله ابن عباس ، وأصله من الصرير الذي هو الصوت ، ويراد به الريح الشديدة الباردة
[ حرث ] زرع وأصله من حرث الأرض اذا شقها للزرع والبذر
[ بطانة ] بطانة الرجل : خاصته الذين يفضي إليهم باسراره ، شبه ببطانة الثوب لأنه يلي البدن
[ لا يألونكم ] اى لا يقصرون ، قال الزمخشري : يقال : الأ في الأمر يألو اذا قصر فيه
[ خبالا ] الخبال : الفساد والنقصان ، ومنه رجل مخبول اذا كان ناقص العقل
[ عنتم ] العنت : شدة الضرر والمشقة
[ الأنامل ] اطراف الأصابع .
سبب النزول :
لما اسلم (عبد الله بن سلام ) وأصحابه ، قال أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ! ! وقالوا لهم : لقد كفرتم وخسرتم فأنزل الله [ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ] الأية .
التفسير :
[ ليسوا سواء ] أى ليس أهل الكتاب مستوين فى المساوىء ، وهنا تم الكلام ، ثم ابتدأ تعالى بقوله
[ من أهل الكتاب أمة قائمه ] أى منهم طائفة مستقيمة على دين الله
[ يتلون آيات الله اناء الليل وهم يسجدون ] أى يتهجدون في الليل بتلاوة آيات الله حال الصلاة
[ يؤمنون بالله واليوم الأخر ] أي يؤمنون بالله وبلقائه على الوجه الصحيح
[ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ] اى يدعون الى الخير وينهون عن الشر ولا يداهنون
[ ويسارعون في الخيرات ] اى يعملونها مبادرين غير متثاقلين
[ واولئك من الصالحين ] اى وهم في زمرة عباد الله الصالحين
[ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ] اى ما عملوا من عمل صالح فلن يضيع عند الله
[ والله عليم بالمتقين ] اى لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه اجر المتقين . . ثم اخبر تعالى عن مآل الكافرين فقال
[ ان الذين كفروا لن تغني عنهم اموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ] أى لن تدفع عنهم أموالهم التي تهالكوا على اقتنائها ، ولا اولادهم الذين تفانوا في حبهم من عذاب الله شيئا
[ واولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ] اى هم مخلدون في عذاب جهنم
[ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ] أى مثل ما ينفقونه في الدنيا بقصد الثناء وحسن الذكر ، كمثل ريح عاصفة فيها برد شديد
[ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ] أى أصابت تلك الريح المدمرة زرع قوم ، ظلموا أنفسهم بالمعاصى فأفسدته وأهلكته فلم ينتفعوا به ؟ فكذلك الكفار يمحق الله أعمالهم الصالحة ، كما يتلف الزرع بذنوب أصحابه
[ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ] أي وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بإرتكاب ما يستوجب العقاب ، ثم حذر تعالى من اتخاذ المنافقين بطانة يطلعونهم على أسرارهم فقال
[ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ] أى لا تتخذوا المنافقين أصدقاء تودونهم وتطلعونهم على أسراركم ، وتجعلونهم أولياء من غير المؤمنين
[ لا يألونكم خبالا ] أى لا يقصرون لكم فى الفساد
[ ودوا ما عنتم ] أى تمنوا مشقتكم ، وما يوقعكم في الضرر الشديد
[ قد بدت البغضاء من أفواههم ] أى ظهرت أمارات العداوة لكم على ألسنتهم ، فهم لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم ، حتى يصرحوا بذلك بأفواههم
[ وما تخفي صدرهم أكبر ] أى وما يبطنونه لكم من البغضاء أكثر مما يظهرونه
[ قد بينا لكم الآيات ] أى وضحنا لكم الآيات الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين
[ إن كنتم تعقلون ] أى إن كنتم عقلاء ، وهذا على سبيل الهز والتحريك للنفوس ، كقولك : إن كنت مؤمنا فلا تؤذ الناس ، وقال ابن جرير : المعنى إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه . . ثم بين سبحانه ما هم عليه من كراهية المؤمنين فقال
[ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ] أى ها أنتم يا معشر المؤمنين خاطئون في موالاتكم وصداقتكم لهم ، إذ تحبونهم ولا يحبونكم ، تريدون لهم النفع وتبذلون لهم المحبة ، وهم يريدون لكم الضر ويضمرون لكم العداوة
[ وتؤمنون بالكتاب كله ] أى وأنتم تؤمنون بالكتب المنزلة كلها ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد ، بأنهم فى باطلهم أصلب منكم قي حقكم
[ وإذا لقوكم قالوا آمنا ] أى وهذا من خبئهم إذ يظهرون أمامكم الإيمان نفاقا
[ وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ] أى وإذا خلت مجالسهم منكم ، عضوا أطراف الأصابع من شدة الحنق والغضب لما يرون من ائتلافكم ، وهو كناية عن شدة الغيظ ، والتأسف لما يفوتهم من إذاية المؤمنين
[ قل موتوا بغيظكم ] هو دعاء عليهم أى قل يا محمد : أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا
[ إن الله عليم بذات الصدور ] أى إن الله عالم بما تكنه سرائركم ، من البغضاء والحسد للمؤمنين . . ثم أخبر تعالى بما يترقبون نزوله من البلاء والمحنة بالمؤمنين فقال
[ إن تمسسكم حسنة تسؤهم ] أى إن أصابكم ما يسركم من رخاء وخصب ، ونصير وغنيمة ، ساءهم ذلك
[ وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ] أى وإن أصابكم ما يضركم من شدة وجدب وهزيمة ، سرهم ذلك ، فبين تعالى فرط عدأوتهم ، حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة
[ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ] أي إن صبرتم على أذاهم واتقيتم الله في أقوالكم وأعمالكم ، لا يضركم مكرهم وكيدهم ، فشرط تعالى نفى ضررهم بالصبر والتقوى
[ إن الله بما يعملون محيط ] أى هو سبحانه عالم بما يدبرونه لكم من مكائد ، فيصرف عنكم شرهم ، ويعاقبهم على نواياهم الخبيثة .
البلاغة :
1 - [ من أهل الكتاب أمة ] جيء بالجملة أسمية للدلالة على الإستمرار كما جيء بعدها بصيغة المضارع [ يتلون آيات الله ] للدلالة على التجدد ومثله في [ يسجدون ] .
2 - [ وأولئك من الصالحين ] الإشارة بالبعيد عن القريب ، لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم في الفضل
3 - [ كمثل ريح فيها صر ] فيه (التشبيه التمثيلى) شبه ما كانوا ينفقونه من أجل المفاخر وكسب الثناء ، بالزرع الذي أصابته الريح العاصفه الباردة ، فدمرته وجعلته حطاما .
4 - [ لا تتخذوا بطانة ] شبه دخلاء الرجل وخواصه بالبطانة ، ففيه استعارة بديعة لطيفة ، تشبيها لهم ببطانة الثوب ، التي تكون من الداخل ، فكأنهم ملاصقون لأجسامهم .
5 - [ عضوا عليكم الأنامل ] قال أبو حيان : يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل فيكون حقيقة ، ويحتمل أنه من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ والتأسف لما يفوتهم من إذاية المؤمنين أقول : عض الأنامل عادة العاجز النادم ، الذي لا يستطيع أن يفعل شيئا أمام ما يعرض له من متاعب ومصاعب ، فيعض على أصابعه حسرة وندما ، وهذا من مجاز الإمثال .
6 - في الآيات من المحسنات البديعية ما يسمى (بالمقابلة) وذلك في قوله [ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ] حيث قابل الحسنة بالسيئة والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة ، كما أن فيها جناس الإشتقاق في [ ظلمهم ] و[ يظلمون ] وفي [ الغيظ ] و[ غيظكم ] وفي [ تؤمنون ] و[ آمنا ] .
لطيفة :
عبر بالمس في قوله [ إن تمسسكم حسنة ] وبالإصابة في قوله [ وإن تصبكم سيئة ] وذلك للإشارة إلى أن الحسنة تسوء الإعداء ، وحتى ولو كانت بأيسر الأشياء ، ولو مسا خفيفا ، وأما السيئة فإذا تمكنت الإصابة بها إلى الحد الذى يرثي له الشامت فإنهم لا يرثون ، بل يفرحون ويسرون ، وهذا من أسرار بلاغة التنزيل ، فلفظ الإصابة يدل على تمكن الوقوع بخلاف المس .
قال الله تعالى : [ وإذا غدوت من أهلك نبوىء المؤمنين مقاعد للقتال . . إلى . . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ] من آية ( 121 ) إلى نهاية آية ( 132 )
المناسبة :
يبدأ الحديث عن الغزوات من هذه الآيات الكريمة ، وقد انتقل السياق من معركة الجدل والمناظرة ، إلى معركة الميدان والقتال ، والآيات تتحدث عن (غزوة أحد) بالإسهاب ، وقد جاء الحديث عن (غزوة بدر) في أثنائها اعتراضا ، ليذكرهم بنعمته تعالى عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة قليلون في العدد والعدد ، وهذه الآية هي افتتاح القصة عن غزوة أحد ، وقد أنزل فيها ستون آية ، ومناسبة الآيات لما قبلها أنه تعالى لما حذر من اتخاذ بطانة السوء ، ذكر هنا أن السبب في هم الطائفتين من الإنصار بالفشل إنما كان بسبب تثبيط المنافقين لهم وعلى رأسهم (أبي ابن سلول ) رأس النفاق فالمناسبة إذا واضحة . روى الشيخان عن جابر قال " فينا نزلت [ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ] قال نحن الطائفتان : بنو حاربة ، وبنو سلمة ، وما يسرنى أنها لم تنزل لقول الله تعالى [ والله وليهما ] .
اللغة :
[ غدوت ] خرجت غدوة وهي الساعات الأولى من الصبح
[ تفشلا ] الفشل : الجبن والضعف
[ تبوىء ] تنزل ، يقال : بوأته منزلا وبوأت له منزلا أى أنزلته فيه ، وأصل التبوىء اتخاذ المنزل .
[ أذلة ] أى قلة في العدد والسلاح
[ فورهم ] الفور : السرعة ، وأصله شدة الغليان من فارت القدر إذا غلت ، ثم استعمل اللفظ للسرعة تقول : من فوره أى من ساعته
[ مسومين ] بفتح الواو بمعنى معلمين على القتال ، وبكسرها بمعنى لهم علامة ، وكانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضاء
[ طرفا ] طائفة وقطعة
[ يكبتهم ] الكبت : الهزيمة والإهلاك وقد يأتى بمعنى الغيظ والإذلال
[ خانبين ] الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب .
سبب النزول :
ثبت فى صحيح مسلم أن النبي (ص) كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله [ ليس لك من الأمر شيء ] .
التفسير :
[ وإذ غدوت من أهلك ] أى اذكر يا محمد حين خرجت إلى أحد من عند أهلك
[ تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال ] أى تنزل المؤمنين أماكنهم لقتال عدوهم
[ والله سميع عليم ] أى سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم
[ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا ] أى حين كادت طائفتان من جيش المسلمين أن تجبنا وتضعفا ، وهمتا بالرجوع وهما " بنو سلمة " و " بنو حاربة " وذلك حين خرج رسول الله (ص) لأحد بألف من أصحابه ، فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل " عبد الله بن أبى " بثلث الجيش وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فهم الحيان من الأنصار بالرجوع ، فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله (ص) وذلك قوله تعالى
[ والله وليهما ] أى ناصرهما ومتولي أمرهما
[ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ] أى في جميع أحوالهم وأمورهم . . ثم ذكرهم تعالى بالنصر يوم بدر لتقوى قلوبهم ، ويتسلوا عما أصابهم من الهزيمة يوم أحد فقال
[ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ] أى نصركم يوم بدر مع قلة العدد والسلاح ، لتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعدد
[ فأتقوا الله لعلكم تشكرون ] أى خافوا ربكم واشكروه على ما من به عليكم من النصر
[ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ] أى إذ تقول يا محمد لأصحابك : أما يكفيكم أن يعينكم الله بإمداده لكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم
[ بلى إن تصبروا وتتقوا ] أى بلى يمدكم بالملائكة إن صبرتم في المعركة ، واتقيتم الله وأطعتم أمره
[ ويأتوكم من فورهم هذا ] أى يأتيكم المشركون من ساعتهم هذه
[ يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ] أى يزدكم الله مددا من الملائكة ، معلمين على السلاح ومدربين على القتال ((وقيل معنى مسومين : أي معلمين بعلامة ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم )).
[ وما جعله الله إلا بشرى لكم ] أى وما جعل الله ذلك الإمداد بالملائكة ، إلا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتا
[ ولتطمئن قلوبكم به ] أى ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم
[ وما النصر إلا من عند الله ] أى فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العدد والعدد ، ما النصر في الحقيقة إلا بعون الله وحده ، لا من الملائكة ولا من غيرهم
[ العزيز الحكيم ] أى الغالب الذي لا يغلب في أمره (الحكيم ) الذي يفعل ما تقتضيه حكمته الباهرة
[ ليقطع طرفا من الذين كفروا ] أى ذلك التدبير الإلهي ، ليهلك طائفة منهم بالقتل والإسر ، ويهدم ركنا من أركان الشرك
[ أو يكبتهم ] أى يغيظهم ويخزيهم بالهزيمة
[ فينقلبوا خائبين ] أى يرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم ، وقد فعل تعالى ذلك بهم في بدر ، حيث قتل المسلمون من صناديدهم سبعين وأسروا سبعين ، وأعز الله المؤمنين وأذل الشرك والمشركين
[ ليس لك من الأمر شيء ] هذه الآية وردت اعتراضا وهي في قصة أحد ، وذلك لما كسرت رباعيته (ص) وشج وجهه الشريف قال : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ؟ ! فنزلت [ ليس لك من الأمر شيء ] أي ليس لك يا محمد من أمر تدبير العباد شيء ، وإنما أمرهم إلى الله
[ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ] أى فالله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، فإنهم ظالمون يستحقون العذاب
[ ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ] أى له جل وعلا ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ، ويغفر لمن يشاء وهو الغفور الرحيم
[ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ] أى لا تتعاملوا بالربا بطريق الجشع ، حتى تأخذوه أضعافا كثيرة ، قال ابن كثير : كانوا في الجاهلية إذا حل أجل الدين ، يقول الدائن : إما أن تقضي وإما أن تربي ! فإن قضاه والإ زاده في المدة وزاده في القدر ، وهكذا كل عام ، فربما يضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا ،
[ واتقوا الله ] أى اتقوا عذابه بترك ما نهى عنه
[ لعلكم تفلحون ] أى لتكونوا من الفائزين
[ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ] أى احذروا نار جهنم التي هيئت للكافرين
[ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ] أى أطيعوا الله ورسوله لتكونوا من الإبرار الذين تنالهم رحمة الله جل وعلا.
البلاغة :
1 - [ إذ تقول ] صيغة المضارع لحكآية الحال الماضية لاستحضار صورتها في الذهن
2 - [ إن يمدكم ربكم ] التعرض لعنوان الربوبية مع إضافته للمخاطبين لإظهار كمال العنآية بهم .
3- [ يغفر ويعذب ] بينهما طباق .
4 - [ أضعافا مضاعفة ] جناس الإشتقاق .
5 - [ لا تأكلوا الربا ] سمي الإخذ أكلا لأنه يئول إليه فهو (مجاز مرسل ) .
تنبيه :
ذكر الإضعاف المضاعفة في الآية ليس للقيد ولا للشرط ، وإنما هو لبيان الحالة التي كان الناس عليها في الجاهلية ، وللتشنيع عليهم بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا ، وعدوانا مبينا ، حيث كانوا يأخذون الربا أضعافا مضاعفة ، قال ابو حيان : " نهوا عن الحالة الشنعاء التى يوقعون الربا عليها فربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، وأشار بقوله [ مضاعفة ] إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام ، والربا محرم بجميع أنواعه ، فهذه الحال ليس قيدا في النهي " .
قال الله تعالى : [ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم . . إلى . . وحسن ثواب الإخرة والله يحب المحسنين ] من آية (133 ) إلى نهآية آية (148 ) .
المناسبة :
لما حث تعالى على الصبر والتقوى ، عقبه بالأمر بالمسارعة إلى نيل رضوان الله ، ثم ذكر بالتفصيل غزوة احد ، وما نال المؤمنين فيها من الهزيمة بعد النصر ، بسبب مخالفة أمر الرسول (ص) ثم بين أن الإبتلاء سنة الحياة ، واستشهاد الأنبياء لا ينبغي أن يدخل الوهن إلى قلوب المؤمنين .
اللغة :
[ وسارعوا ] بادروا
[ السراء ] الرخاء
[ الضراء ] الشد ة والضيق
[ والكاظمين ، كظم الغيظ : رده في الجوف يقال : كظم غيظه أى لم يظهره مع قدرته على ايقاعه بالعدو
[ فاحشة ] الفاحشة : العمل الذي تناهى في القبح
[ خلت ] مضت
[ سنن ] السنن : جمع سنة وهي الطريقة التي يقتدى بها ، والمراد بها هنا الوقائع التي حصلت للمكذبين
[ قرح ] جرح بالفتح والضم ، قال الفراء : هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه ، وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه مافى قراح
[ نداولها ] نصرفها والمدأولة : نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال : تدأولته الإيدي إذا انتقل من شخص إلى شخص
[ وليمحص ] التمحيص : التخليص يقال : محصته إذا خلصته من كل عيب ، وأصله في اللغة : التنقية والإزالة [ ويمحق ] المحق : نقص الشيء قليلا قليلا
[ أعقابكم ] جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال : انقلب على عقبه أى رجع إلى ما كان عليه
[ مؤجلا ] له وقت محدد لا يتقدم ولا يتأخر
[ وكأين ] بمعنى كم ، وهي للتكثير وأصلها " أى " دخلت عليها كاف التشبيه فأصبح معناها التكثير
[ ربيون ] جمع ربي نسبة إلى الرب كالربانيين وهم العلماء الإتقياء العابدون لربهم
[ استكانوا ] خضعوا وذلوا .
التفسير :
[ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ] أى بادروا إلى ما يوجب المغفرة بطاعة الله وإمتثال أوامره
[ وجنة عرضها السماوات والأرض ] أى وإلى جنة واسعة عرضها كعرض السماء والأرض ، فالآية على التشبيه ، كما قال في سورة " الحديد " [ عرضها كعرض السماء والأرض ] والغرض بيان سعتها فإذا كان هذا عرضها فما ظنك بطولها ؟
[ أعدت للمتقين ] أى هيئت للمتقين لله
[ الذين ينفقون في السراء والضراء ] أى يبذلون أموالهم في اليسر والعسر ، وفي الشدة والرخاء
[ والكاظمين الغيظ ] أى يمسكون غيظهم مع قدرتهم على الإنتقام
[ والعافين عن الناس ] أى يعفون عمن أساء إليهم أو ظلمهم
[ والله يحب المحسنين ] أى يحب المتصفين بتلك الإوصاف الجليلة وغيرها
[ والذين إذا فعلوا فاحشة ] أى ارتكبوا ذنبا قبيحا كالكبائر
[ أو ظلموا أنفسهم ] بإتيان أى ذنب
[ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ] أى تذكروا عظمة الله ووعيده لمن عصاه فأقلعوا عن الذنب وتابوا وأنابوا
[ ومن يغفر الذنوب إلا الله ] ؟ استفهام بمعنى النفي أى لا يغفر الذنوب إلا الله ، وهي جملة اعتراضية لتطييب نفوس العباد ، وتنشيطهم للتوبة ولبيان أن الذنوب - وإن جلت - فإن عفوه تعالى أجل ، ورحمته أوسع
[ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ] أى لم يقيموا على قبيح فعلهم ، وهم عالمون بقبحه بل يقلعون ويتوبون
[ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم ] أى الموصوفون بتلك الصفات الحميدة ، جزاؤهم وثوابهم العفو عما سلف من الذنوب
[ وجنات تجري من تحتها الإنهار ] أى ولهم جنات تجري خلال أشجارها ، ومن تحت قصورها الإنهار
[ خالدين فيها ] أى ماكثين فيها أبدا
[ ونعم أجر العاملين ] أى نعمت الجنة جزاء لمن أطاع الله . . ثم ذكر تعالى تتمة تفصيل غزوة أحد فقال سبحانه
[ قد خلت من قبلكم سنن ] أى قد مضت سنة الله في الإمم الماضية ، بالهلاك والإستئصال بسبب مخالفتهم الأنبياء
[ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ] أى تعرفوا أخبار المكذبين وما نزل بهم ، لتتعظوا بما ترون من آثار هلاكهم
[ هذا بيان للناس ] أى هذا القرآن ((اختار الطبرى وبعض المفسرين أن تكون الاشارة راجعه الى ما تقدم ذكره والمعنى : هذا الذى أوضحت لكم وعرفتكم به من أخبار هلاك الامم السابقه فيه بيان للناس من العمى وهدى من الضلالة وموعظة للمتقين)) فيه بيان شاف للناس عامة
[ وهدى وموعظة للمتقين ] أى وهداية لطريق الرشاد وموعظة وذكرى للمتقين خاصة ، وإنما خص المتقين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون به دون سائر الناس . . ثم أخذ يسليهم عما أصابهم من الهزيمة في وقعة أحد ، فقال سبحانه
[ ولا تهنوا ولا تحزنوا ] أى لا تضعفوا عن الجهاد ، ولا تحزنوا على ما أصابكم من قتل! أو هزيمة
[ وأنتم الإعلون ] أى وانتم الغالبون لهم المتفوقون عليهم ، فإن كانوا قد أصابوكم يوم أحد ، فقد أبليتم فيهم يوم بدر بلاء حسنا ، فقتلتم منهم وأسرتم
[ إن كنتم مؤمنين ] أى إن كنتم حقا مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا
[ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ] أى إن أصابكم قتل أو جراح فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم
[ وتلك الإيام ندوالها بين الناس ] أى الإيام دول ، يوم لك ويوم عليك ، ويوم تساء ويوم تسر
[ وليعلم الله الذين آمنوا ] أي فعل ذلك ليمتحنكم فيرى من يصبر عند الشدائد ، ويميز بين المؤمنين والمنافقين
[ ويتخذ منكم شهداء ] أي وليكرم بعضكم بفضيلة الشهادة في سبيل الله
[ والله لا يحب الظالمين ] أى لا يحب المعتدين الفجرة ، ومنهم المنافقون الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد
[ وليمحص الله الذين آمنوا ] أى ينفيهم ويطهرهم من الذنوب ويميزهم عن المنافقين
[ ويمحق الكافرين ] أى يهلكهم شيئا فشيئا
[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ] استفهام على سبيل الإنكار أى هل تظنون يا معشر المؤمنين ، أن تنالوا الجنة بدون ابتلاء وتمحيص ؟
[ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ] أى ولما تجاهدوا في سبيله فيعلم الله جهادكم ، وصبركم على الشدائد ؟ قال الطبري المعنى : أظننتم يا معشر أصحاب محمد أن تنالوا كرامة ربكم ، ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدون منكم فى سبيل الله ، والصابرون عند الشدة على ما ينالهم في ذات الله ، من ألم ومكروه! !
[ ولقد كنتم تمنون الموت ] أى كنتم تتمنون لقاء الإعداء لتحظوا بالشهادة
[ من قبل أن تلقوه ] أى من قبل أن يذوقوا شدته ، والآية عتاب في حق من انهزم
[ فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ] أى رأيتموه بأعينكم عندما قتل من اخوانكم من قتل ، وشارفتم أن تقتلوا ! ؟ ونزل لما أشاع الكافرون أن محمدا قد قتل ، وقال المنافقون : إن كان قد قتل فتعالوا نرجع إلى ديننا الإول
[ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ] أى ليس محمد إلا رسول مضت قبله رسل ، والرسل بشر منهم من مات ، ومنهم من قتل
[ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ] أفإن أماته الله أو قتله الكفار ، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ؟
[ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ] أى ومن يرتد عن دينه فلا يضر الله ، وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب
[ وسيجزي الله الشاكرين ] أى يثيب الله المطيعين ، وهم الذين ثبتوا ولم ينقلبوا . . ثم أخبر تعالى إنه جعل لكل نفس آجلا لا يتقدم ولا يتأخر فقال
[ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ] أى بإرادته ومشيئته
[ كتابا مؤجلا ] أى كتب لكل نفس أجلها كتابا مؤقتا بوقت معلوم ، لا يتقدم ولا يتأخر ، والغرض تحريضهم على الجهاد وترغيبهم في لقاء العدو ، فالجبن لا يزيد في الحياة ، والشجاعة لا تنقص منها ، والحذر لا يدفع القدر ، والإنسان لا يموت قبل بلوغ أجله ، وإن خاض المهالك واقتحم المعارك
[ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ] أى من أراد بعمله أجر الدنيا أعطيناه منها ، وليس له في الإخرة من نصيب ، وهو تعريض بالذين رغبوا في الغنائم ، فبين تعالى أن حصول الدنيا للإنسان ليس بموضع غبطة ، لأنها مبذولة للبر والفاجر
[ ومن يرد ثواب الإخرة نؤته منها ] أي ومن أراد بعمله أجر الإخرة أعطيناه الإجر كاملا ، مع ما قسمنا له من الدنيا كقوله [ من كان يريد حرث الإخرة نزد له في حرثه ]
[ وسنجزي الشاكرين ] أى سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا بحسب شكرهم وعملهم
[ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ] أى كم من الأنبياء قاتل لإعلاء كلمة الله ، وقاتل معه علماء ربانيون ((ذهب الطبري إلى معنى {ربيون كثير} أي جموع كثيرة وهذا قول قتادة ، وعن الحسن أن المراد علماء كثيرون ، أتقياء صالحون ، وهذا أظهر والله أعلم )) وعباد صالحون قاتلوا ، فقتل منهم من قتل
[ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ] أى ما جبنوا ولا ضعفت هممهم لما أصابهم من القتل والجراح
[ وما ضعفوا ] عن الجهاد
[ وما استكانوا ] أي ما ذلوا ولا خضعوا لعدوهم
[ والله يحب الصابرين ] أى يحب الصابرين على مقاساة الشدائد والإهوال في سبيل الله
[ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ] أى ما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين إلا طلب المغفرة من الله
[ وإسرافا في أمرنا ] أى وتفريطنا وتقصيرنا في واجب طاعتك وعبادتك
[ وثبت أقدامنا ] أى ثبتنا في مواطن الحرب
[ وانصرنا على القوم الكافرين ] أى انصرنا على الكفار
[ فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الإخرة ] أى جمع الله لهم بين جزاء الدنيا بالغنيمة والعز ، وبين جزاء الإخرة بالجنة ونعيمها
[ والله يحب المحسنين ] أى يحب من أحسن عمله وأخلص نيته .
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
1 - [ عرضها السموات والأرض ] أى كعرض السموات والأرض حذقت أداة التشبيه ووجه الشبه ، وسمى هذا ب " التشبيه البليغ " .
2 - [ سارعوا إلى مغفرة ] من باب تسمية الشيء باسم سببه أى إلى موجبات المغفرة .
3 - [ السراء والضراء ] فيه الطباق وهو من المحسنات البديعية .
4 - [ ومن يغفر الذنوب إلا الله ] استفهام يقصد منه النفي أى لا يغفر .
5 - [ أولئك جزأوهم مغفرة ] الإشارة بالبعيد للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل ، وعظم الإجر .
6 - [ ونعم أجر العاملين ] المخصوص بالمدح محذوف أى ونعم أجر العاملين ذلك النعيم الخالد .
7 - [ وليعلم الله ] هو من باب الإلتفات لأنه جاء بعد لفظ [ نداولها ] فهو التفات من الحاضر إلى الغيبة ، والسر تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله .
8 - [ وما محمد إلا رسول ] فيه قصر موصوف على صفة .
9 - [ انقلبتم على أعقابكم ] هذه استعارة لطيفة ، شبه سبحانه الرجوع في الإرتياب بالرجوع على الإعقاب ، أى من يرجع عن دينه فقد خاب وشقي .
الفوائد :
الإولى : في هذه الآيات الكريمة [ وسارعوا إلى مغفرة ] دعوة إلى أمهات مكارم الإخلاق ، من (البذل وكظم الغيظ والعفو عن المسيئين والتوبة من الذنوب ) ، وكل منها مصدر لفضائل لا تدخل تحت الحصر.
الثانية : قدم المغفرة على الجنة لأن التخلية مقدمة على التحلية فلا يستحق دخول الجنة من لم يتطهر من الذنوب والآثام .
الثالثة : تخصيص العرض بالذكر [ عرضها السموات والأرض ] للمبالغة في وصف الجنة بالسعة والبسطة ، فإذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها ؟
الرابعة : كتب هرقل إلى النبي (ص) إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال عليه السلام : " سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار " يقصد أن ملك الله واسع ، فوق التصور والخيال ، فالجنة والنار يكونان حيث شاء الله .
الخامسة : أمر تعالى بالمسارعة إلى عمل الإخرة في آيات عديدة [ وسارعوا إلى مغفرة ] و[ سابقوا إلى مغفرة ] [ فاستبقوا الخيرات ] [ فاسعوا إلى ذكر الله ] [ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ] وأما لعمل الدنيا فأمر تعالى بالسير " بالهوينى " [ فامشوا في مناكبها ] [ وآخرون يضربون في الأرض ] فتدبر السر الدقيق في آيات الذكر الحكيم .
قال الله تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا . . إلى . . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ] من آية (149 ) إلى نهاية آية (158 )
المناسبة :
لا تزال الآيات الكريمة تتناول سرد أحداث (غزوة أحد) وما فيها من العظات والعبر ، فهي تتحدث عن أسباب الهزيمة وموقف المنافقين الفاضح في تلك الغزوة ، وت أمرهم على الدعوة الإسلامية بثبيط عزائم المؤمنين .
اللغة :
[ سلطانا ] حجة وبرهانا وأصله القوة ومنه قيل للوالي سلطان
[ مثوى ] المثوى : المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه ، من قولهم ثوى بالمكان إذا أقام فيه
[ تحسونهم ] تقتلونهم ، قال الزجاج : الحسق الإستئصال بالقتل وأصله الضرب على مكان الحس
[ تصعدون ] الإصعاد : الذهاب والإبعاد في الأرض ، والفرق بينه وبين الصعود أن الإصعاد يكون في مستوى من الأرض ، والصعود يكون في ارتفاع
[ لا تلوون ] أى لا تلتفتون إلى أحد كما يفعل المنهزم وأصله من لي العنق للإلتفات
[ أخراكم ] آخركم
[ أثابكم ] جازاكم
[ أمنة ] أمنا واطمئنانا
[ يغشى ] يستر ويغطي
[ وليمحص ] التمحيص : التنقية وتخليص الشيء مما فيه من عيب
[ استزلهم ] أوقعهم في الزلة وهي الخطيئة
[ غزى ] جمع غاز وهو الخارج في سبيل الله للجهاد.
سبب النزول :
لما رجع رسول الله (ص) إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا به يوم أحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله [ ولقد صدقكم الله وعده . . . الى قوله . . . منكم من يريد الدنيا ] يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد
التفسير :
[ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ] أى إن اطعتم الكفار والمنافقين فيما ي أمرونكم به
[ يردوكم على أعقابكم ] أى يردوكم إلى الكفر
[ فتنقلبوا خاسرين ] أى ترجعوا إلى الخسران ، ولا خسران أعظم من أن تتبدلوا الكفر بالإيمان ، قال ابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم
[ بل الله مولاكم ] بل للإضراب أى ليسوا أنصارا لكم حتى تطيعوهم ، بل الله ناصركم فأطيعوا أمره
[ وهو خير الناصرين ] أي هو سبحانه خير ناصر وخير معين فلا تستنصروا بغيره . . ثم بشر تعالى المؤمنين بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، فقال سبحانه :
[ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ] أى سنقذف في قلوبهم الخوف والفزع
[ بما اشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ] أى بسبب اشراكهم بالله وعبادتهم معه آلهة أخرى من غير حجة ولا برهان
[ ومأواهم النار ] أى مستقرهم النار
[ وبئس مثوى الظالمين ] أى بئس مقام الظالمين نار جهنم ، فهم في الدنيا مرعوبون ، وفي الإخرة معذبون ، وفي الحديث الشريف (نصرت بالرعب مسيرة شهر)
[ ولقد صدقكم الله وعده ] أى وفى الله لكم ما وعدكم به من النصر على عدوكم
[ إذ تحسونهم بإذنه ] أى تقتلونهم قتلا ذريعا ، وتحصدونهم حصدا بسيوفكم ، بإرادة الله وحكمه
[ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ] أى حتى إذا جبنتم وضعفتهم واختلفتم في أمر المقام في الجبل
[ وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ] أى عصيتم أمر الرسول ، بعد أن كان النصر حليفكم ، روي أن النبي (ص) وضع خمسين من الرماة فوق الجبل ، وأمرهم أن يدفعوا عن المسلمين وقال لهم : لا تبرحوا أ ماكنكم حتى ولو رايتمونا تخطفتنا الطير! ! فلما التقى الجيشان لم تقو خيل المشركين على الثبات ، بسبب السهام التي أخذتهم في جوههم من الرماة ، فانهزم المشركون ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة ونزلوا لجمع الإسلاب ، وثبت رئيسهم ومعه عشرة ، فجاءهم المشركون من خلف الجبل فقتلوا البقية من الرماة ، ونزلوا على المسلمين بسيوفهم من خلف ظهورهم ، فانقلب النصر إلى هزيمة للمسلمين ، فذلك قوله تعالى [ من بعد ما أراكم ما تحبون ] أى من بعد النصر
[ منكم من يريد الدنيا ] أى الغنيمة وهم الذين بركوا الجبل
[ ومنكم من يريد الآخرة ] أى ثواب الله وهم العشرة الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم " عبد الله بن جبير " ثم استشهدوا
[ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ] أى ردكم بالهزيمة عن الكفار ليمتحن إيمانكم
[ ولقد عفا عنكم ] أى صفح عنكم مع العصيان ، وفيه اعلام بان الذنب كان يستحق أكثر ما نزل بهم ، لولا عفو الله عنهم ، ولهذا قال
[ والله ذو فضل على المؤمنين ] أى ذو من ونعمة على المؤمنين في جميع الإوقات والإحوال
[ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ] أى اذكروا يا معشر المؤمنين حين وليتم الأدبار وأنتم تبعدون في الفرار ، ولا تلتفتون إلى ما وراءكم ، ولا يقف واحد منكم لآخر
[ والرسول يدعوكم في أخراكم ] أى ومحمد (ص) يناديكم من وراءكم يقول (إلى عباد الله ، إلى عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة) وأنتم تمعنون في الفرار
[ فأثابكم غما بغم ] أى جازاكم على صنيعكم غما بسبب غمكم للرسول (ص) ومخالفتكم أمره ((ذهب الطبري الى أن الباء بمعنى على والمعنى : فجازاكم على معصيتكم ومخالفتكم أمر الرسول غما على غم ، كقوله {ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل ، وقد رجح هذا القول ابن القيم واعتمده ابن كثير )) .
[ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ] أى لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة
[ ولا ما أصابكم ] أى من الهزيمة ، والغرض بيان الحكمة من الغم ، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم وما أصابهم ، وذلك من رحمته تعالى بهم
[ والله خبير بما تعملون ] أى هو سبحانه يعلم المخلص من غيره
[ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ] هذا امتنان منه تعالى عليهم أى ثم أرسل عليكم بعد ذلك الغم الشديد ، النعاس للسكينة والطمأنينة ولتأمنوا على أنفسكم من عدوكم ، فالخائف لا ينام ! ! روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال : (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد) قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ثم ذكر سبحانه إن تلك الأمنة لم تكن عامة بل كانت لأهل الإخلاص ، وبقى أهل النفاق في خوف وفزع ، فقال سبحانه
[ يغشى طائفة منكم ] أي يغشى النوم فريقا منكم وهم المؤمنون المخلصون
[ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ] أى وجماعة أخرى حملتهم أنفسهم على الهزيمة ، فلا رغبة لهم إلا نجاتها ، وهم (المنافقون ) ، وكان السبب في ذلك توعد المشركين بالرجرع إلى القتال ، فقعد المؤمنون متهيئين للحرب ، فأنزل الله عليهم الإمنة فناموا ، وأما المنافقون الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم ، فقد طار النوم من أعينهم من الفزع والجزع
[ يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ] أى يظنون بالله الظنون السيئة مثل ظن أهل الجاهلية . قال ابن كثير : وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة
[ يقولون هل لنا من الأمر من شيء ] أى ليس لنا من الأمر شيء ، ولو كان لنا اختيار ما خرجنا لقتال
[ قل إن الأمر كله لله ] أى قل يا محمد لأولئك المنافقين : الأمر كله بيد الله يصرفه كيف شاء
[ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ] أى يبطنون في أنفسهم ما لا يظهرون لك
[ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ] أى لو كان الإختيار لنا ، لم نخرج فلم نقتل ، ولكن أكرهنا على الخروج ، وهذا تفسير لما يبطنونه ، قال الزبير : أرسل علينا النوم ذلك اليوم ، وإني لأسمع قول " معتب بن قشير " والنعاس يغشانى يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا
[ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ] أى قل لهم يا محمد : لو لم تخرجوا من بيوتكم ، وفيكم من قدر الله عليه القتل لخرج أولئك إلى مصارعهم ، فقدر الله لا مناص منه ولا مفر
[ وليبتلي الله ما في صدوركم ] أى ليختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق
[ وليمحص ما في قلوبكم ] أى ولينقى ما في قلوبكم ويطهره ، فعل بكم ذلك
[ والله عليم بذات الصدور ] أى عالم بالسرائر مطلع على الضمائر ، وما فيها من خير أو شر . . ثم ذكر سبحانه الذين انهزموا يوم أحد فقال
[ إن الذين تولوا منكم ] أى انهزموا منكم من المعركة
[ يوم التقى الجمعان ] أى جمع المسلمين وجمع المشركين
[ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ] أى إنما أزلهم الشيطان بوسوسته وأوقعهم في الخطيئة ، ببعض ما عملوا من الذنوب ، وهو مخالفة أمر الرسول (ص)
[ ولقد عفا الله عنهم ] أى تجاوز عن عقوبتهم وصفح عنهم
[ إن الله غفور ] أى واسع المغفرة
[ حليم ] لا يعجل العقوبة لمن عصاه . . ثم نهى سبحانه عن الإقتداء بالمنافقين ، في أقوالهم وأفعالهم فقال سبحانه
[ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ] أى لا تكونوا كالمنافقين
[ وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض ] أى وقالوا لإخوانهم من أهل النفاق إذا خرجوا في الإسفار والحروب
[ أو كانوا غزى ] أو خرجوا غازين في سبيل الله
[ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ] أى لو أقاموا عندنا ولم يخرجوا لما ماتوا ولا قتلوا ، قال تعالى ردا عليهم
[ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ] أى قالوا ذلك ليصير ذلك الإعتقاد الفاسد حسرة في نفوسهم
[ والله يحيي ويميت ] أى هو سبحانه المحيي المميت ، فلا يمنع الموت قعود في البيوت
[ والله بما تعملون بصير ] أى مطلع على أعمال العباد فيجازيهم
[ ولئن قتلتم فى سبيل الله ] أى استشهدتم في الحرب والجهاد
[ أو متم ] أى جاءكم الموت وانتم قاصدون جهاد الإعداء
[ لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ] أى ذلك خير من البقاء في الدنيا ، وجمع حطامها الفاني
[ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ] أى وسواء متم على فراشكم ، أو قتلتم في ساحة الحرب ، فإن مرجعكم إلى الله فيجازيكم بأعمالكم ، فآثروا ما يقربكم إلى الله ويوجب لكم رضاه ، من الجهاد في سبيل الله ، والعمل بطاعته ، ولله در القائل حيث يقول : فان تكن الإبدان للموت انشئت فقتل أمرىء بالسيف في الله أفضل
البلاغة :
1 - [ يردوكم على أعقابكم ] أى يرجعوكم من الإيمان إلى الكفر وهو من باب (الإستعارة) ، شبه ارتدادهم عن الدين ، بمن رجع إلى الخلف .
2 - بين لفظ [ آمنوا ] و[ كفروا ] في الآية طباق وكذلك بين [ يخفون ] و[ يبدون ] وبين [ فاتكم ] و[ أصابكم ] وهو من المحسنات البديعية .
3 - [ وبئس مثوى الظالمين ] لم يقل وبئس مثواهم ، بل وضع الظاهر مكان الضمير ، للتغليظ وللإشعار بأنهم ظالمون أشد الظلم والمخصوص بالذم محذوف أى بئس مثوى الظالمين النار .
4 - [ ذو فضل! على المؤمنين ] التنكير للتفخيم وقوله [ على المؤمنين ] دون عليهم ، فيه الإظهار في موضع الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم .
5 - [ يظنون بالله ظن ] بينهما جناس الإشتقاق وكذلك في [ فتوكل . . والمتوكلين ] .
6 - [ إذا ضربوا في الأرض ] فيه استعارة لطيفة ، تشبيها للمسافر بالسابح الضارب في البحر ، لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء ، شقا لها واستعانة على قطعها.
فائدة :
من الذين ثبتوا في المعركة بأحد الإسد المقدام " انس بن النضر " عم انس بن مالك ، فلما هزم المسلمون ، وأشاع المنافقون أن محمدا (ص) قد قتل قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين – وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم بسيفه فلقيه لاسعد بن معاذ " فقال : أين يا سعد ؟ والله إني لآجد ريح الجنة دون احد ، فمضى فقتل ومثل به المشركون ، فلم يعرفه أحد الإ أخته عرفته من بنانه ووجد به بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم .
فائدة :
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : أن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله [ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الإخرة ] فلما خالف أصحاب رسول الله (ص) وعصوا ما أمروا به ، أفرد النبي (ص) في تسعة وهو عاشرهم ، فلما أرهقوه قال : رحم الله رجلا ردهم عنا فلم يزل يقول ذلك حتى قتل سبعة منهم ، فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها ، فلم تستطع أن تأكلها ، وحزن عليه رسول الله (ص) حزنا شديدا ، وصلى عليه سبعين صلاة.
قال الله تعالى : [ فبما رحمة من الله لنت لهم . . إلى . . قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ] من آية (159 ) إلى نهاية آية (168 )
المناسبة :
لا تزال الآيات تتحدث عن غزة أحد ، وفي هذه الآيات الكريمة إشادة بالقيادة الحكيمة ، فمع مخالفة بعض الصحابة لأو أمر الرسول (ص) فقد وسعهم عليه الصلاة والسلام بخلقه الكريم وقلبه الرحيم ، ولذلك اجتمعت القلوب حول دعوته ، وتوحدت تحت قيادته ، والآيات تتحدث عن أخلاق النبوة ، وعن المنة العظمى ببعثة الرسول الرحيم والقائد الحكيم ، وعن بقية الإحداث الهامة في تلك الغزوة .
اللغة :
[ فظا ] الفظ : الغليظ الجافي ، قال الواحدي هو الغليظ سمى الخلق ، قال الشاعر : أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
[ غليظ القلب ] هو الذي لا يتأثر قلبه ولا يرق ، ومن ذلك قول الشاعر : لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
[ انفضوا ] تفرقوا وأصل الفض الكسر ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك
[ يغل ] الغلول : الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال : غل فلان في الغنيمة أى أخذ شيئا منها في خفية
[ باء ] رجع
[ سخط ] السخط : الغضب الشديد
[ مأواه ] منزله ومثواه
[ يزكيهم ] يطهرهم
[ من ] المنة : الإنعام والإحسا ن
[ فادرءوا ] الدرء : الدفع ومنه [ ويدرا عنها العداب ] .
سبب النزول :
فقدت قطيفة حمراء يوم بدر من المغنم فقال بعض الناس لعل النبي (ص) أخذها فأنزل الله [ وما كان لنبى أن يغل . . ] الآية .
التفسير :
[ فبما رحمة من الله لنت لهم ] أى فبسبب رحمة من الله أودعها الله في قلبك يا محمد ، كنت هينا لين الجانب مع أصحابك ، مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك
[ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ] أى لو كنت جافي الطبع قاسي القلب ، تعاملهم بالغلظة والجفاء ، لتفرقوا عنك ونفروا منك ، ولما كانت الفظاظة في الكلام ، نفى الجفاء عن لسانه ، كما نفى القسوة عن قلبه
[ فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ] أى فتجاوز عما نالك من أذاهم يا محمد ، واطلب لهم من الله المغفرة ، وشاورهم في جميع أمورك ليقتدي بك الناس ، قال الحسن ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم وكان عليه السلام كثير المشاورة لأصحابه
[ فإذا عزمت فتوكل على الله ] أى إذا عقدت قلبك على أمر بعد الإستشارة ، فاعتمد على الله وفوض أمرك إليه
[ إن الله يحب المتوكلين ] أى يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إليه
[ أن ينصركم الله فلا غالب لكم ] أى إن أراد الله نصركم فلا يمكن لأحد أن يغلبكم
[ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ] أى وإن أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم ، فمهما وقع لكم من النصر كيوم بدر ، أو من الخذلان كيوم أحد ، فإنما هو بمشيئته سبحانه ، فالأمر كله لله ، بيده العزة والنصرة ، والإذلال والخذلان
[ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ] أى وعلى الله وحده فليلجأ وليعتمد المؤمنون
[ وما كان لنبى أن يغل ] أى ما صح ولا استقام شرعا ولا عقلا لنبى من الأنبياء ان يخون في الغنيمة ، والنفي هنا نفى للشأن ، وهو أبلغ من نفي الفعل ، لأن المراد أنه لا يتأتى ولا يصح أن يتصور ، فضلا عن أن يحصل ويقع
[ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ] أى ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا يأت حاملا له على عنقه يوم القيامة ، فضيحة له على رءوس الإشهاد
[ ثم توفى كل نفس ما كسبت ] أى تعطى جزاء ما عملت وافيا غير منقوص
[ وهم لا يظلمون ] أى تنال جزاءها العادل ، دون زيادة أو نقص ، فلا يزاد في عقاب العاصي ، ولا ينقص من ثواب المطيع
[ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ] ؟ أى لا يستوي من أطاع الله وطلب رضوانه ، ومن عصى الله فاستحق سخطه وباء بالخسران
[ ومأواه جهنم وبئس المصير ] أى مصيره ومرجعه جهنم ، وبئست النار مستقرا له
[ هم درجات عند الله ] أى متفاوتون في المنازل ، قال الطبري : هم مختلفو المنازل عند الله ، فلمن أبغ رضوان الله الكرامة والثواب الجزيل ، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعقاب الإليم
[ والله بصير بما يعملون ] أي لا يخفى عليه خافية من أعمال العباد وسيجازيهم عليها . . ثم ذكر تعالى المؤمنين بالمنة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال سبحانه :
[ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ] أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين ، حين أرسل إليهم رسولا عربيا من جنسهم ، عرقوا أمره وخبروا شأنه ، وخص تعالى المؤمنين بالذكر وإن كان رحمة للعالمين ، لأنهم هم المنتفعون ببعثته
[ يتلو عليهم آياته ] أى يقرأ عليهم الوحي المنزل
[ ويزكيهم ] أى يطهرهم من الذنوب ودنس الإعمال
[ ويعلمهم الكتاب والحكمة ] أى يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة
[ وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ] أي وقد كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر ، فنقلوا من الظلمات إلى النور ، وصاروا أفضل الإمم
[ أو لما أصابتكم مصيبة ] أى أو حين أصابتكم أيها المؤمنون كارثة يوم أحد ، فقتل منكم سبعون
[ قد أصبتم مثليها ] أى في بدر حيث قتلتم سبعين ، وأسرتم سبعين
[ قلتم أنى هذا ] ؟ أى من أين هذا البلاء ، ومن أين جاءتنا الهزيمة ، وقد وعدنا بالنصر ؟ وموضع التقريع قولهم [ أنى هذا ] ؟ مع أنهم سبب النكسة والهزيمة
[ قل هو من عند أنفسكم ] أى قل لهم يا محمد : إن سبب المصيبة منكم أنتم ، بمعصيتكم أمر الرسول ، وحرصكم على الغنيمة
[ إن الله على كل شيء قدير ] أى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه
[ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ] أى وما أصابكم يوم أحد ، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين ، فبقضاء الله وقدره ، وبارادته الإزلية وتقديره الحكيم ، ليتميز المؤمنون عن المنافقين
[ وليعلم المؤمنين ] أى ليعلم أهل الإيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا
[ وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ] أى وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن ابى ابن سلول وأصحابه الذين انخذلوا يوم أحد عن رسول الله (ص) ورجعوا وكانوا نحوا من ثلاثمائة رجل ، فقالى لهم المؤمنون : تعالوا قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا
[ قالوا لو نعلم قتالإ لاتبعناكم ] أى قال المنافقون : لو نعلم أنكم تلقون حربا لقابلنا معكم ، ولكن لا نظن أن يكون قتال
[ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ] أى بإظهارهم هذا القول ، صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان
[ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ] أى يظهرون خلاف ما يضمرون
[ والله أعلم بما يكتمون ] أى بما يخفونه من النفاق والشرك
[ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ] أى وليعلم الله أيضا المنافقين الذين قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم وقد قعدوا عن القتال
[ لو أطاعونا ما قتلوا ] أى لو أطاعنا المؤمنون وسمعوا نصيحتنا ، فرجعوا كما رجعنا ما قتلوا هنالك
[ قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ] أى قل يا محمد لأولئك المنافقين : إن كان عدم الخروج ينجي من الموت ، فادفعوا الموت عن أنفسكم إن كنتم صادقين في دعواكم ، والغرض منه التوبيخ والتبكيت وأن الموت آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة .
البلاغة :
1 - [ إن ينصركم . . وإن يخذلكم ] بينهما مقابلة وهي من المحسنات البديعية .
2 - [ وعلى الله فليتوكل ] تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر .
3 - [ وما كان لنبى أن يغل ] أى ما صح ولا استقام ، والنفى هنا للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل .
4 - [ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ] قال ابو حيان : " هذا من الإستعارة البديعية ، جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصى كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئا ، فنكص عن اتباعه ورجع بدونه " .
5 - [ بسخط من الله ] التنكير للتهويل أى بسخط عظيم لا يكاد يوصف .
6 - [ هم درجات ] على حذف مضاف أى ذو درجات متفاوتة ، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متضعة .
7 - [ للكفر . . وللإيمان ] بينهما طباق وكذلك بين [ يبدون . . ويخفون ] .
8 - [ أصابتكم مصيبة ] بينهما جناس الإشتقاق ، وهو من المحسنات البديعية .
تنبيه :
في هذه الآية [ فبما رحمة من الله لنت لهم ] دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الإخلاق ، ومن عجيب أمره (ص) انه كان أجمع الناس لدواعي العظمة ، ثم كان أدناهم إلى التواضع ، فكان أشرف الناس نسبا وأوفرهم حسبا ، وأزكاهم عملا ، وأسخاهم كرما ، وأفصحهم بيانا ، وكلها من دواعي العظمة ، ثم كان من تواضعه عليه السلام أنه كان يرقع الثوب ، ويخصف النعل ، ويركب الحمار ، ويجلس على الأرض ، ويجيب دعوة العبد المملوك ، فصلوات الله وسلامه على السراج المنير ، بحر (المكارم والفضائل) (ص) .
فائدة :
التوكل على الله من أعلى المقامات لوجهين : أحدهما محبة الله للعبد [ إن الله يحب المتوكلين ] والثانى الضمان في كنف الرحمن [ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ] .
قال الله تعالى : [ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا . . إلى . . والله بما تعملون خبير ] من آية (169 ) إلى نهاية آية ( 185 )
المناسبة :
لا تزال الآيات الكريمة تتابع أحداث أحد وتكشف عن أسرار المنافقين ومواقفهم المخزية ، وتوضح الدروس والعبر من تلك الغزوة المجيدة .
اللغة :
[ يستبشرون ] يفرحون وأصله من البشرة لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه
[ القرح ] بالفتح الجرح وبالضم ألم الجرح وقد تقدم
[ حسبنا ] كافينا مأخوذ من الإحساب بمعنى الكفاية ، قال الشاعر : فتملأ بيتنا أقطا وسمنا وحسبك من غنى شبع وريء
[ حظا ] الحظ : النصيب ويستعمل في الخير والشر ، وإذا لم يقيد يكون للخير
[ نملي ] الإملاء : التأخير والإمهال بطول العمر ، ورغد العيش
[ يميز ] يقال : ماز وميز أى فصل الشيء من الشيء ، ومنه [ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ]
[ يجتبي ] يختار
[ سيطوقون ] من الطوق وهو القلادة أى يلزمون به لزوم الطوق في العنق .
سبب النزول :
1 - عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى جوف طير خضر ، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء : في الجنة نرزق ، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله [ ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا ] الآية .
2 -عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله (ص) فقال يا جابر : ما لي أراك منكسا مهتما ؟ قلت يا رسول الله : استشهد أبي وترك عيالإ وعليه دين فقال : إلا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا ((كفاحا : أي مواجهة بدون حجاب ولا رسول ، وكلمه بلا واسطة )) - وما كلم أحدا قط إلا من وراء حجاب - فقال له : يا عبد الله تمن أعطك ، قال يا رب : أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية ، فقال الرب تبارك وتعالى : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ، قال يا رب : فأبلغ من ورائي فأنزل الله [ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ] .
التفسير :
[ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ] أى لا تظنن الذين استشهدوا في سبيل الله لإعلاء دينه أمواتا لا يحسون ولا يتنعمون
[ بل أحياء عند ربهم يرزقون ] أى بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد ، يرزقون من نعيمها غدوا وعشيا ، قال الواحدي : الإصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي (ص) من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون
[ فرحين بما آتاهم الله من فضله ] أى هم منعمون في الجنة فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة
[ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ] أى يستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إن استشهدوا ، فهم لذلك فرحون مستبشرون
[ الإ خوف عليهم ولا هم يحزنون ] أي بأن لا خوف عليهم في الإخرة ، ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم
[ بستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ] أكد نهد استبشارهم ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل والمعنى : يفرحون بما حباهم الله تعالى من عظيم كرامته ، وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب ، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم ، والفضل ما زادهم من المضاعفة في الإجر
[ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ] أى الذين أطاعوا الله وأطاعوا الرسول من بعد ما نالهم الجراح يوم أحد . قال ابن كثير : وهذا كان يوم احمراء الإسد ((حمراء الأسد مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة المنورة )) وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم ، ثم ندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة ، فلما بلغ ذلك رسول الله (ص) ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ، ويريهم أن بهم قوة وجلدا ، ولم يإذن لأحد سوى من حضر أحدا ، فانتدب لهم المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله (ص).
[ للذين أحسنوا منهم وأتقوا أجر عظيم ] أى لمن أطاع منهم أمر الرسول وأجابه إلى الغزو - على ما به من جراح وشدائد - الإجر العظيم والثواب الجزيل
[ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا ] أى الذين أرجف لهم المرجفون من أنصار المشركين فقالوا لهم : أن قريشا قد جمعت لكم جموعا لا تحصى ، فخافوا على أنفسكم ، فما زادهم هذا التخويف إلا إيمانا
[ وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ] أى قال المؤمنون : الله كافينا وحافظنا ومتولي أمرنا ، ونعم الملجأ والنصير لمن توكل عليه جل وعلا
[ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ] أى فرجعوا بنعمة السلامة ، وفضل الإجر والثواب
[ لم يمسسهم سوء ] أى لم ينلهم مكروه أو أذى
[ واتبعوا رضوان الله ] أى نالوا رضوان الله الذي هو سبيل السعادة في الدارين
[ والله ذو فضل عظيم ] أى ذو إحسان عظيم على العباد
[ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ] أى إنما ذلكم القابل [ إن الناس قد جمعوا لكم ] بقصد تثبيط العزائم هو (الشيطان ) يخوفكم أولياءه وهم الكفار لترهبوهم
[ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ] أي فلا تخافوهم ولا ترهبوهم ، فإني متكفل لكم بالنصر عليهم ، ولكن خافوا ربكم - إن كنتم مؤمنين حقا - أن تعصوا أمري فتهلكوا ، والمراد بالشيطان (نعيم بن مسعود الإشجعي ) الذي أرسله ابو سفيان ليثبط المسلمين ، قال ابو حيان : وإنما نسب إلى (الشيطان ) لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه
[ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ] تسلية للنبي (ص) أى لا تحزن ولا تتألم يا محمد لأولئك المنافقين الذين يبادرون نحو الكفر بأقوالهم وأفعالهم ، ولا تبال بما يظهر منهم من آثار الكيد للإسلام وأهله
[ إنهم لن يضروا الله شيئا ] أى إنهم بكفرهم لن يضروا الله شيئا وإنما يضرون أنفسهم
[ يريد الله الا يجعل لهم حظا في الإخرة ] أى يريد تعالى بحكمته ومشيئته ، إلا يجعل لهم نصيبا من الثواب في الإخرة
[ ولهم عذاب عظيم ] أى ولهم فوق الحرمان من الثواب عذاب عظيم في نار جهنم
[ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ] أى إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان وهم " المنافقون " المذكورون قبل ، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم ولهم عذاب مؤلم
[ ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم ] أى لا يظن الكافرون أن إمهالنا لهم بدون جزاء وعذاب ، وإطالتنا لأعمارهم خير لهم
[ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ] أى إنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم
[ ولهم عذاب مهين ] أي ولهم في الإخرة عذاب يهينهم ويخزيهم
[ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ] هذا وعد من الله لرسوله بانه سيميز له المؤمن من المنافق ، والمعنى : لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين ، حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فعل في غزوة أحد ، حيث ظهر أهل الإيمان وأهل النفاق . قال ابن كثير : " اي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيها وليه ويفضح بها عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر ، من المنافق الفاجر ، كما ميز بينهم يوم أحد " .
[ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ] أى وما كان الله ليطلعكم على قلوب عباده ، لتعرفوا المؤمن من الكافر ، والصادق من المنافق ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والإبتلاء ، كما ميز بينهم يوم أحد بالباساء وجهاد الإعداء
[ ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ] أى يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على غيبه كما أطلع النبي (ص) على حال المنافقين
[ فآمنوا بالله ورسله ] أى آمنوا إيمانا صحيحا بأن الله وحده المطلع على الغيب ، وأن ما يخبر به الرسول من أمور الغيب إنما هو بوحي من الله
[ وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجرعظيم ] أى وإن تصدقوا رسلي وتتقوا ربكم بطاعته فلكم ثواب عظيم
[ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ] أى لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ، وبخله بإنفاقه ينفعه ، بل هو مضرة عليه في دينه ودنياه
[ بل هو شر لهم ] أى ليس الأمر كما يظنون ، بل ذلك البخل شر لهم
[ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ] أي سيجعل الله ما بخلوا به طوقا في أعناقهم ، يعذبون به يوم القيامة ، كما جاء في صحيح البخاري (من آتاه الله مالإ فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع - أى ثعبانا عظيما - له زبيبتان فيأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول : أنا مالك انا كنزك ، ثم تلا (ص) [ ولا يحسبن الذي يبخلون ] الآية
[ ولله ميراث السموات والأرض ] أى جميع ما في الكون ملك له سبحانه ، يعود إليه بعد فناء خلقه
[ والله بما تعملون خبير ] أى مطلع على أعمالكم ، وسيجازيكم عليها .
البلاغة :
تضمنت هذه الآيات فنونا من البلاغة والبديع :
1- الإطناب في [ يستبشرون ] وفي [ لن يضروا ] وفي اسم الجلالة في مواضع .
2- الطباق في [ أمواتا بل أحياء ] وفي [ الكفر بالإيمان ] .
3- والإستعارة في [ اشتروا الكفر ] وفي [ يسارعون في الكفر ] وفي [ الخبيث والطيب ] إذ يراد به المؤمن والمنافق والحذف في مواضع .
فائدة :
قوله تعالى [ حسبنا الله ونعم الوكيل ] هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار ، فنجاه الله منها ، وجعلها بردا وسلاما عليه ! ! قال السيوطي في الإكليل : يستحب قول هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة .
قال الله تعالى : [ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير. . . إلى . . والله على كل شيء قدير ] من آية (181 ) إلى نهاية آية (189 ) .
المناسبة :
بعد ان انتهى الإستعراض القرآني لمعركة أحد ، وما فيها من أحداث جسيمة ، أعقبه تعالى بذكر دسائس اليهود وأساليبهم الخبيثة ، في محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق التشكيك والبلبلة ، والكيد والدس ، ليحذر المؤمنين من خطرهم كما حذرهم من المنافقين ، والآيات الكريمة تتحدث عن اليهود وموقفهم المخزي من الذات الإلهية ، وإتهامهم لله عز وجل بأشنع الإتهامات بالبخل والفقر ، ثم نقضهم للعهود ، وقتلهم للأنبياء ، إلى آخر ما هنالك من جرائم وشنائع ، اتصف بها هذا الجنس الملعون .
اللغة :
[ عهد إلينا ] أوصانا
[ بقربان ] القربان : ما يذبح من الإنعام تقربا إلى الله تعالى
[ البينات ] الآيات الواضحات ، والمراد بها هنا : المعجزات
[ الزبر ] جمع زبور هو الكتاب من الزبر وهو الكتابة ، قال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة
[ زحزح ] الزحزحة : التنحية والإبعاد
[ فاز ] ظفر بما يؤمل ونجا مما يخاف
[ الغرور ] مصدر غره يغره غرورا أى خدعه
[ متاع ] المتاع : ما يتمتع به وينتفع ثم يزول
[ لتبلون ] لتمتحنن من بلاه أى امتحنه
[ عزم الأمور ] المراد به صواب التدبير والرأي ،
[ بمفازة ] بمنجاة من قولهم فاز فلان إذا نجا . .
سبب النزول :
1 - عن ابن عباس قال : دخل ابو بكر الصديق ذات يوم بيت مدراس اليهود ، فوجد ناسا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له (قنحاص بن عازوراء) وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال ابو بكر لفنحاص : ويحك اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله يا ابا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا! ! فغضب ابو بكر وضرب وجه " فنحاص " ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله ، فذهب فنحاص إلى رسول الله (ص) فقال يا محمد : انظر إلى ما صنع بي صاحبك ؟! فقال رسول الله (ص) : ما حملك على ما صنعت يا ابا بكر ؟ فقال يا رسول الله : إن عدو الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء ، فغضبت لله وضربت وجهه ، فجحد ذلك فنحاص ، فأنزل الله ردا على فنحاص وتصديقا لابي بكر [ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ] الآية .
2 -عن ابن عباس قال : جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله (ص) -منهم كعب بن الإشرف ، ومالك بن الصيف ، وفنحاص بن عازوراء - وغيرهم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابا ، وقد عهد الله إلينا في التوراة إلا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية [ الذي قالوا إن الله عهد إلينا إلا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ] الآية .
التفسير :
[ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ] هذه المقالة الشنيعة ، مقالة أعداء الله اليهود عليهم لعنة الله ، زعموا أن الله فقير ، وذلك حين نزل قوله تعالى [ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ] قالوا : إن الله فقير يقترض منا كما قالوا [ يد الله مغلولة ] قال القرطبي : وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون هذا ، وغرضهم تشكيك الضعفاء من المؤمنين وتكذيب النبي (ص) أى إنه فقير على قول محمد لانه اقترض منا
[ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ] أي سن أمر الحفظة بكتابة ما قالوه في صحائف أعمالهم ، ونكتب جريمتهم الشنيعة ، بقتل الأنبياء بغير حق ، والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم
[ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ] أى وبقول لهم الملائكة : ذوقوا عذاب النار المحرق الشديد
[ ذلك بما قدمت أيديكم ] أى ذلك العذاب بما اقترفته أيديكم من الجرائم
[ وأن الله ليس بظلام للعبيد ] أى وأنه سبحانه عادل ليس بظالم للخلق ، والمراد أن ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل الله تعالى فيكم ، قال الزمخشري : ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن
[ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ] أى هم الذين قالوا أن الله أمرنا وأوصانا في التوارة
[ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ] أى أمرنا بأن لا نصدق رسولا حتى يأتينا بآية خاصة ، وهي أن يقدم قربانا فتنزل نار من السماء فتأكله ، وهذا افتراء على الله حيث لم يعهد إليهم بذلك
[ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ] أى قل لهم يا محمد توبيخا وإظهارا لكذبهم : قد جاءتكم رسل قبلي بالمعجزات الواضحات ، والحجج الباهرات ، الدالة على صدق نبوتهم وبالذي ادعيتم
[ فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ] أى فلم كذبتموهم وقتلتموهم إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بالله ، والتصديق برسله ؟ ثم قال تعالى مسليا لرسوله (ص)
[ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ] أى لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك ، فإنهم إن فعلوا ذلك فقد كذبت أسلافهم من قبل رسل الله ، فلا تحزن فلك بهم أسوة حسنة
[ جاءوا بالبينات ] أى كذبوهم مع أنهم جاءوهم بالبراهين القاطعة والمعجزات الواضحة
[ والزبر والكتاب المنير ] أى بالكتب السمأوية المملوءة بالحكم والمواعظ ، والكتاب الواضح الجلي كالتوراة والإنجيل
[ كل نفس ذائقة الموت ] أى مصير الخلائق إلى الفناء ، وكل نفس ميتة لا محالة كقوله تعالى [ كل من عليها فان ]
[ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ] أى تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة
[ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة ففد فاز ] أى فمن نحى عن النار وأبعد عنها ، وأدخل الجنة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم المخلد
[ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ] أى ليست الدنيا إلا دار الفناء ، يستمتع بها الأحمق المغرور . قال ابن كثير : الآية فيها تصغير لشأن الدنيا وتحقير ل أمرها وأنها فانية زائلة
[ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ] أى والله لتمتحنن وتختبرن في أموالكم بالفقر والمصائب ، وفي أنفسكم بالشدائد والأمراض
[ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ] أى ولينالنكم من اليهود والنصارى والمشركين - أعدائكم - الأذى الكثير ، وهذا إخبار منه جل وعلا للمؤمنين ، بأنه سينالهم بلايا وأكدار من المشركين والفجار ، وأمر لهم بالصبر عند وقوع ذلك ، لأن الجنة حفت بالمكاره ، ولهذا قال سبحانه
[ وإن تصبروا وتتقوا ] أى وإن تصبروا على المكاره وتتقوا الله في الأقوال والأعمال
[ فإن ذلك من عزم الأمور ] أى الصبر والتقوى من الأمور التي ينبغى ان تعزموا وتحزموا عليها لأنها مما أمر الله بها
[ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ] أى اذكر يا أيها الرسول حين أخذ الله العهد المؤكد على اليهود في التوراة
[ لتبيننه للناس ولا تكتمونه ] أى لتظهرن ما في الكتاب من أحكام الله ولا يخفونها ، قال ابن عباس : هي لليهود أخذ عليهم العهد والميثاق في أمر رسول الله (ص) فكتموه ونبذوه
[ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ] أى طرحوا ذلك العهد وراء ظهورهم ، واستبدلوا به شيئا حقيرا من حطام الدنيا
[ فبئس ما يشترون ] أى بئس هذا الشراء ، وبئست تلك الصفقة الخاسرة
[ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ] أى لا تظنن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من اخفاء أمرك عن الناس
[ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ] أى ويحبون ان يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال
[ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ] أى فلا تظننهم بمنجاة من عذاب الله
[ ولهم عذاب أليم ] أى عذاب موجع مؤلم ، قال ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي (ص) عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه
[ ولله ملك السموات والأرض ] أى له سبحانه جميع ما في السموات والأرض فكيف يكون من له ما في السموات والأرض فقيرا ؟ والآية رد على اليهود الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء
[ والله على كل شيء قدير ] أى هو تعالى قادر على عقابهم .
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما ياتي :
1 - [ إن الله فقير ونحن أغنياء ] أكد اليهود الجملة ب [ إن الله فقير ] على سبيل المبالغة ، فحيث نسبوا إلى أنفسهم الغنى لم يؤكدوا بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد ، كأن الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع فيحتاج إلى تأكيد ، وهذا دليل على تمردهم في الكفر والطغيان .
2 - [ سنكتب ما قالوا ] فيه مجاز يسمى (المجاز العقلى) أى ستكتب ملائكتنا لقوله تعالى : [ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ] فأسند الفعل إليه مجازا.
3 - [ ذلك بما قدمت أيديكم ] فيه مجاز مرسل من اطلاق اسم الجزء وارادة الكل ، وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بهن .
4 - [ تأكله النار ] اسناد الأكل إلى النار بطريق (الاستعارة) إذ حقيقة الأكل إنما تكون في الإنسان والحيوان ، وكذلك يوجد استعارة في قوله [ ذائقة الموت ] لأن حقيقة الذوق ما يكون بحاسة اللسان ، وهذا كله من لطيف الاستعارة.
5 - [ متاع الغرور ] شبه الدنيا بالمتاع الذي يدنس به على المستام ، ويغر حتى يشتريه ، والشيطان هو المدلس الغرور ، فهو من باب الكناية اللطيفة .
6 - [ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ] كذلك توجد استعارة في النبذ والاشتراء ، شبه عدم التمسك والعمل به بالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان ، وباشتراء ثمن قليل ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله .
7 - وفي الآيات الكريمة من المحسنات البديعية الطباق في [ فقير وأغنياء ] والمقابلة [ زحزح عن النار وأدخل الجنة ] وفي [ لتبيننه . . ولا تكتمونه ] والجناس المغاير في [ قول الذين قالوا ] وفي [ كذبوك فقد كذب ] .
فائدة :
صيغة فعال في الآية [ وما ربك بظلام ] ليست للمبالغة وإنما هي للنسب ، مثل عطار ونجار وتمار ، كلها ليست للمبالغة وإنما هي للنسب ، قال ابن مالك : ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى من الياء قبل .
تنبيه :
إنما وصف تعالى عيش الدنيا ونعيمها بأنه متاع الغرور ، لما تمنيه لذاتها وشهواتها من طول البقاء وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه ، ولهذا قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك ، يوشك أن يضمحل ويزول ، فخذوا من هذا المتاع ، واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم ، والله المستعان .
قال الله تعالى : [ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات . . إلى أخر السورة ] . من آية ( 190 ) إلى نهاية آية ( 200)
المناسبة :
بدأ تعالى هذه السورة الكريمة بذكر أدلة التوحيد والإلوهية والنبوة ، وختمها بذكر دلائل الوحدانية والقدرة ، فكان ختام مسك ، ولما كان المقصود جذب القلوب إلى معرفة الإله الحق ، جاءت الآيات الكريمة تنير القلوب بأدلة التوحيد والإلهية ، والتدبر فى ملكوت السموات والأرض ، ليخلص الإنسان إلى الاعتراف بوحدانية الله وباهر قدرته جل وعلا
اللغة :
[ الألباب ] العقول
[ باطلا ] عبثا بدون حكمة
[ سبحانك ] تنزية لله عن السوء
[ أخزيته ] أذللته وأهنته
[ كفر عنا ] استر وامح
[ الأبرار ] جمع بر أو بار وهم المستمسكون بالشريعة
[ فاستجاب ] بمعنى أجاب
[ نزلا ] النزل : ما يهيأ للنزيل وهو الضيف من أنواع الإكرام
[ رابطوا ] المرابطة : ترصد العدو في الثغور .
سبب النزول :
عن ام سلمة قالت : قلت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشىء فأنزل الله [ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ] الآية .
التفسير :
[ إن فى خلق السموات والأرض ] أى إن في خلق السموات والأرض على ما بهما من إحكام وإبداع
[ واختلاف الليل والنهار ] أى وتعاقب الليل والنهار على الدوام
[ لآيات لأولي الألباب ] أي علامات واضحة على الخالق وباهر حكمته ، لذوي العقول الذين ينظرون إلى الكون ، بطريق التفكر والاستدلال ، لا كما ينظر البهائم . . ثم وصف تعالى أولي الألباب بالصفات الحميدة فقال سبحانه
[ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ] أى يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم في جميع الأحوال ، في حال القيام والقعود والاضطجاع ، فلا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم ، لاطمننان قلوبهم بذكره ، واستغراق سرائرهم في مراقبته
[ ويتفكرون في خلق السموات الأرض ] أى يتدبرون في ملكوت السموات والأرض ، في خلقهما بهذه الإجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات قائلين
[ ربنا ما خلقت هذا باطلا ] أى ما خلقت هذا الكون وما فيه عبثا من غير حكمة
[ سبحانك فقنا عذاب النار ] أى ننزهك يا الله عن العبث فأجرنا واحمنا من عذاب جهنم
[ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ] أى من أدخلته النار فقد أذللته وأهنته غاية الإهانة وفضحته على رءوس الأشهاد
[ وما للظالمين من أنصار ] أى ليس للكفار من يمنعهم من عذاب الله ، والمراد بالظالمين الكفار كما قال ابن عباس وجمهور المفسرين ، وقد صرح به في البقرة [ والكافرون هم الظالمون ] ،
[ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ] أى داعيا يدعو إلى الإيمان وهو محمد (ص)
[ أن آمنوا بربكم فآمنا ] أى يقول هذا الداعي أيها الناس آمنوا بربكم ، واشهدوا له بالوحدانية ، فصدقنا بذلك واتبعناه
[ ربنا فأغفر لنا ذنوبنا ] أى استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها
[ وكفر عنا سيئاتنا ] أى امح بفضلك ورحمتك ما ارتكبناه من سيئات
[ وتوفنا مع الأبرار ] أى ألحقنا بالصالحين ، قال ابن عباس : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات هي الصغائر ويؤيده [ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ] فلا تكرار إذا
[ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ] تكرير النداء للتضرع ، ولإظهار كمال الخضوع ، أى أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وهي (الجنة) لمن أطاع الله ورسوله
[ ولا تخزنا يوم القيامة ] أى لا تفضحنا كما فضحت الكفار
[ إنك لا تخلف الميعاد ] أى لا تخلف وعدك وقد وعدت من آمن بالجنة
[ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ] أى أجاب الله دعاءهم بقوله : أني لا أبطل عمل من عمل خيرا ، ذكرا كان العامل ، أو أنثى ، قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ، حتى استجاب لهم
[ بعضكم من بعض ] أى الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، فإذا كنتم مشتركين في الأصل ، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر
[ فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم ] أى هجروا أوطانهم فارين بدينهم ، وألجأهم المشركون إلى الخروج من الديار
[ وأوذوا في سبيلي ] أى تحملوا الأذى من أجل دين الله
[ وقاتلوا وقتلوا ] أى وقابلوا أعدائى وقتلوا في سبيلي
[ لأكفرن عنهم سيئاتهم ] أى لأمحون ذنوبهم بمغفرتي ورحمتي
[ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله ] أى ولأدخلنهم جنات النعيم جزاء من عند الله على أعمالهم الصالحة
[ والله عنده حسن الثواب ] أى عنده حسن الجزاء وهي الجنة ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ثم نبه تعالى إلى ما عليه الكفار في هذه الدار من النعمة والغبطة والسرور ، وبين أنه نعيم زائل فقال
[ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ] أى لا يخدعنك أيها السامع ، تنقل الذين كفروا في البلاد ، طلبا لكسب الأموال والجاه والرتب
[ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ] أى إنما يتنعمون بذلك قليلا ، ثم يزول هذا النعيم ، ومصيرهم في الآخرة إلى النار ، وبئس الفراش والقرار نار جهنم .
[ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ] أى لكن المتقون لله لهم النعيم المقيم في جنات النعيم ، مخلدين فيها أبدا
[ نزلا من عند الله ] أى ضيافة وكرامة من عند الله
[ وما عند الله خير للأبرار ] أى وما عند الله من الثواب والكرامة للاخيار الأبرار ، خير مما يتقلب فيه الأشرار الفجار ، من المتاع القليل الزائل . . ثم أخبر تعالى عن إيمان بعض أهل الكتاب فقال
[ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ] أى ومن اليهود والنصارى فريق يؤمنون بالله حق الإيمان ، ويؤمنون بما أنزل إليكم وهو القرآن وبما أنزل إليهم وهو التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والنجاشي وأتباعه
[ خاشعين لله ] أى خاضعين متذللين لله
[ لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ] أى لا يحرفون نعت محمد ولا أحكام الشريعة ، الموجودة في كتبهم لعرض من الدنيا خسيس ، كما فعل الأحبار والرهبان
[ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ] أى ثواب إيمانهم يعطونه مضاعنا كما قال سبحانه [ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ]
[ إن الله سريع الحساب ] أى سريع حسابه ، لنفوذ علمه بجميع المعلومات ، يعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب ، قال ابن عباس والحسن : نزلت في النجاشى وذلك أنه لما مات نعاه جبريل لرسول الله (ص) فقال النبي (ص) لأصحابه : (قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي ) ، فقال بعضهم لبعض : يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة فأنزل الله [ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ] الآية . ثم ختم تعالى السورة الكريمة بهذه الوصية الجامعة لسعادة الدارين فقال :
[ ياأايها الذين آمنوا اصبروا ] أى اصبروا على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد
[ وصابروا ] أى غالبوا أعداء الله بالصبر على أهوال القتال وشدائد الحروب
[ ورابطوا ] أى لازموا ثغوركم مستعدين للكفاح والغزو
[ واتقوا الله لعلكم تفلحون ] أى خافوا ربكم فلا تخالفوا أمره ، لتفوزوا بسعادة الدارين .
البلاغة :
تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع ما يلي :
1 - الإطناب في قوله [ ربنا ] حيث كرر خمس مرات ، والغرض منه المبالغة في التضرع إلى الله العلى الكبير .
2 - الطباق في كل من [ السموات الأرض ] و[ الليل والنهار ] و[ قياما وقعودا ] و[ ذكر أو أنثى ] .
3 - الإيجاز بالحذف [ ما وعدتنا على رسلك ] أى على ألسنة رسلك وكذلك في قوله [ ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ] أى قابلين ربنا .
4 - الجناس المغاير في قوله [ آمنوا . . فآمنا ] وفي [ عمل عاملا ] وفي [ مناد ينادي ] .
5 - [ لآيات لأولي الألباب ] التنكير للتفخيم ودخلت اللام في خبر إن لزيادة التأكيد .
6 - الإستعارة في قوله [ لا يغرنك تقلب الذين كفروا ] استعير التقلب للضرب في الأرض لطلب المكاسب والله أعلم .
الفوائد :
الأولى : إنما خصص تعالى التفكر بالخلق ، للنهي عن التفكر في الخالق ففي الحديث الشريف (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون الله قدره ) وذلك لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته .
الثانية : تكرر النداء بهذا الإسم الجليل [ ربنا ] خمس مرات كل ذلك على سبيل الإستعطاف وتطلب رحمة الله ، بندائه بهذا الإسم الشريف ، الدال على التربية والملك والإصلاح .
الثالثة : سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أعجب ما رأته من رسول الله (ص) فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا ، أتانى في ليلتى حتى مس جلده جلدي ثم قال : " ذرينى أتعبد ربى عز وجل " فقلت : والله إني لأحب قربك وأحب هواك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت ، فتوضأ ولم يكثر صبى الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال يا رسول الله : ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر ؟ فقال " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي ، وقد أنزل الله على في هذه الليلة [ إن في خلق السموات والأرض . . . ] الآيات ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " .
" تم بعونه تعالى تفسير سورة ال عمران " .
|