سورة طه

سورة طه
مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة آية
بين يدي السورة
سورة طه مكية ، وهي تبحث عن نفس الاهداف للسور المكية ، وغرضها الاساسى التركيز على اصول الدين من (التوحيد ، والنبوة ، والبعث والنشور) في هذه السورة الكريمة تظهر شخصية الرسول (ص) في شد أزره ، وتقوية روحه ، حتى لا يتأثر بما يلقى اليه من السفاهة والعناد ، والاستهزاء والتكذيب ، ولارشاده الى وظيفته الاساسية ، وهي التبليغ والتذكير ، والانذار والتبشير ، وليس عليه ان يجبر الناس على الايمان . عرضت السورة لقصص الانبياء ، تسلية لرسول الله (ص) وتطمينا لقلبه الشريف ، فذكرت بالتفصيل قصة (موسى) و(هارون ) مع فرعون الطاغية الجبار ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها ، وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه ، وموقف تكليفه بالرسالة ، وموقف الجدال بين موسى وفرعون ، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة ، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى ، نبيه وكليمه ، لإهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين . وعرضت السورة لقصة آدم بشكل سريع خاطف ، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطيئة ، وهدايته لذريته بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين ، ثم ترك الخيار لهم لإختيار طريق الخير او الشر . وفي ثنايا السورة الكريمة تبرز بعض مشاهد القيامة ، في عبارات يرتجف لها الكون ، وتهتز لها القلوب هلعا وجزعا ، و ما يصيب الناس من الذهول والسكون [ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ] . وعرضت السورة ليوم (الحشر الأكبر) ، حيث يتم الحساب العادل ، ويعود الطائعون الى الجنة ، ويذهب العصاة الى النار ، تصديقا لوعد الله الذي لا يتخلف ، بإثابة المؤمنين وعقاب المجرمين . وختمت السورة ببعض التوجيهات الربانية للرسول (ص) في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله .
التسمية :
سميت " سورة طه " وهو اسم من اسمائه الشريفة (ص) تطييبا لقلبه ، وتسلية لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد ، ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء [ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ] .
اللغة :
[ بقبس ] القبس : شعلة من نار
[ المقدس ] المطهر والمبارك
[ طوى ] اسم للوادي
[ فتردى ] تهلك والردى : الهلاك
[ أهش ] اخبط بها الشجر ليسقط الورق
[ مآرب ] جمع مأربة وهي الحاجة
[ جناحك ] الجناح : الجنب ، وجناحا الانسان جنباه لان يدي الانسان يشبهان جناحي الطائر
[ أزري ] الأزر : القوة يقال : آزره اي قواه ومنه
[ فآزره فاستغلظ ] قال الشاعر : أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
[ اليم ] البحر
[ تقر عينها ] تسر بلقائك .
التفسير :
[ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ] الحروف المتقطعة للتنبيه الى اعجاز القرآن وقال ابن عباس : معناها يا رجل ، ومعنى الآية : ما انزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به ، انما انزلناه رحمة وسعادة ، روى ان رسول الله (ص) لما نزل عليه القرآن ، صلى هو واصحابه فأطال القيام فقالت قريش ؟ ما انزل الله هذا القرآن على محمد الا ليشقى ، فنزلت هذه الآية
[ إلا تذكرة لمن يخشى ] اي ما انزلناه الا عظة وتذكيرا لمن يخشى الله ويخاف عقابه ، وهو المؤمن المستنير بنور القرآن
[ تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى ] اي انزله خالق الارض ، ومبدع الكون ، ورافع السموات الواسعة العالية ، والآية اخبار عن عظمته وجبروته وجلاله ، قال في البحر : ووصف السموات بالعلى ، دليل على عظمة قدرة من اخترعها ، اذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى
[ الرحمن على العرش استوى ] اى ذلك الرب الموصوف بصفات الكمال والجمال ، هو الرحمن الذى استوى على عرشه استواء يليق بجلاله ، من غير تجسيم ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف


[ له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ] اى له سبحانه ما في الوجود كله : السموات السبع ، والأرضون ، وما بينهما من المخلوقات ، وما تحت التراب من معادن ومكنونات ، الكل ملكه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه
[ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ] اي وان تجهر بالقول او تخفيه في نفسك ، فسواء عند ربك ، فانه يعلم السر وما هو اخفى منه ، كالوسوسة والهاجس والخاطر . . والغرض من الآية طمأنينة قلبه (ص) بأن ربه معه يسمعه ، ولن يتركه وحيدا يواجه الكافرين بلا سند ، فاذا كان يدعوه جهرا ، فانه يعلم السر وما هو اخفى ، والقلب حين يستشعر قرب الله منه ، وعلمه بسره ونجواه ، يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم
[ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ] اي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية ، لا معبود بحق سواه ، ذو الاسماء الحسنة التي هي في غاية الحسن ، وفي الحديث : (ان لله تسعة وتسعين إسما من أحصاها دخل الجنة)
[ وهل أتاك حديث موسى ] الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يلقى اليه ، اى هل بلغك يا ايها الرسول خبر موسى ، وقصته العجيبة الغريبة ؟
[ إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا ] اى حين رأى نارا فقال لإمرأته : أقيمي مكانك فإني ابصرت نارا ، قال ابن عباس : هذا حين قضى الأجل ، وسار بأهله من مدين يريد مصر ، وكان قد أخطأ الطريق ، وكانت ليلة مظلمة شاتية ، فجعل يقدح بالزناد قلا يخرج منها شرر ، فبينما هو كذلك اذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق ، فلما رآها ظنها نارا وكانت من نور الله
[ لعلي آتيكم منها بقبس ] اي لعلى آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها
[ أو أجد على النار هدى ] اي اجد هاديا يدلني على الطريق
[ فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك ] اي فلما أتى النار وجدها نارا بيضاء ، تتقد في شجرة خضراء ، وناداه ربه يا موسى (( قال سيد قطب تغمده الله بالرحمة ، وجمل قاتليه باللعنة : إن القلب ليجف ، وإن الكيان ليرتجف ، وهو يتصور ذلك المشهد . . موسى فريد في تلك الفلاة ، والليل دامس ، والظلام شامل ، والصمت مخيم ، وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور ، ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء العلوي {إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} )) : اني انا ربك الذى اكلمك ، فاخلع النعلين من قدميك رعاية للأدب ، وأقبل
[ إنك بالواد المقدس طوى ] اي فإنك بالوادي المطهر المبارك المسمى طوى
[ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ] اي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما اوحيه اليك ، قال الفخر الرازي : فيه نهاية الهيبة والجلالة ، فكأنه قال : لقد جاءك امر عظيم هائل فتأهب له ، واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفا اليه
[ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ] اي انا الله المستحق للعبادة لا اله غيري ، فافردني بالعبادة والتوحيد
[ وأقم الصلاة لذكري ] اي اقم الصلاة لتذكرني فيها ، قال مجاهد : اذا صلى ذكر ربه لاشتمالها على الاذكار ، وقال الصاوي : خص الصلاة بالذكر ، لان كانت داخلة في جملة العبادات لعظم شأنها ، واحتوائها على الذكر ، وشغل القلب واللسان والجوارح ، فهي افضل اركان الدين بعد التوحيد
[ إن الساعة آتية أكاد أخفيها ] اى ان الساعة قادمة وحاصلة لا محالة ، أكاد اخفيها عن نفسي فكيف اطلعكم عليها ؟ قال المبرد : وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون اذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ، اي لم اطلع عليه احدا


[ لتجزى كل نفس بما تسعى ] اي لتنال كل نفس جزاء ما عملت من خير او شر ، قال المفسرون : والحكمة من اخفائها واخفاء وقت الموت ، ان الله تعالًى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار ، فلو عرف الناس وقت الساعة او وقت الموت ، لاشتغلوا بالمعاصي ، ثم تابوا قبل ذلك ، فيتخلصون من العقاب ، ولكن الله عمى الامر ، ليظل الناس على حذر دائم ، وعلى استعداد دائم ، من ان تبغتهم الساعة ، او يفاجئهم الموت
[ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ] اي لا يصرفنك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها ، من لا يوقن بها
[ واتبع هواه ] اي سلك طريق الهوى ، واقبل على اللذائذ والشهوات ، ولم يحسب حسابا لآخرته
[ فتردى ] اي فتهلك ، فإن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك
[ وما تلك بيمينك يا موسى ] اي وما هذه التي بيمينك يا موسى ؟ أليست عصا ؟ والغرض من الاستفهام التقرير والايقاظ ، والتنبيه الى ما سيبدو من عجائب صنع الله ، في الخشبة اليابسة بانقلابها الى حية ، لتظهر لموسى القدرة الباهرة ، والمعجزة القاهرة ، قال ابن كثير : انما قال له ذلك على وجه التقرير ، اي اما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها ؟ فسترى ما نصنع بها الآن
[ قال هي عصاي أتوكأ عليها ] اى اعتمد عليها في حال المشي
[ وأهش بها على غنمي ] اي أهز بها الشجرة ، واضرب بها على الاغصان ، ليتساقط ورقها فترعاه غنمي
[ ولي فيها مآرب أخرى ] اي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك ، قال المفسرون : كان يكفي ان يقول هي عصاي ، ولكنه زاد في الجواب لان المقام مقام مباسطة ، وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة ، فأراد ان يزيد في الجواب ، ليزداد تلذذا بالخطاب ، وكلام الحبيب مريح للنفس ومذهب للعناء
[ قال ألقها يا موسى ] اي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى ، لترى من شأنها ما ترى
[ فألقاها فإذا هي حية تسعى ] اي فلما القاها صارت في الحال حية عظيمة ، تنتقل وتتحرك في غاية السرعة ، قال ابن عباس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه يبتلع كل شىء ، خافه ونفر منه وولى هاربا قال المفسرون : لما رأى هذا الامر العجيب الهائل ، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الاهوال والمخاوف ، لا سيما هذا الامر الذي يذهب بالعقول ، وانما اظهر له هذه الآية وقت المناجاة ، تأنيسا له بهذه المعجزة الهائلة ، حتى لا يفزع اذا القاها عند فرعون ، لأنه يكون قد تدرب وتعود
[ قال خذها ولا تخف ] اي قال له ربه : خذها يا موسى ولا تخف منها
[ سنعيدها سيرتها الأولى ] اي سنعيدها الى حالتها الاولى كما كانت ، عصا لا حية ، فأمسكها فعادت عصا
[ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ] اي ادخل يدك تحت ابطك ، ثم اخرجها تخرج نيرة مضيئة كضوء الشمس والقمر ، من غير عيب ولا برص ، وكان اذا ادخل يده في جيبه ثم اخرجها ، تعرج تتلألأ كأنها فلقة قمر ، من غير برص ولا أذى
[ آية أخرى ] اي معجزة ثانية غير العصا
[ لنريك من آياتنا الكبرى ] اي لنريك بذلك بعض آياتنا العظيمة . . اراه الله معجزتين (العصا ، واليد) وهي بعض ما أيده الله به من المعجزات الباهرة ، ثم أمره ان يتوجه الى فرعون رأس الكفر والطغيان
[ اذهب الى فرعون إنه طغى ] اي اذهب بما معك من الآيات الى فرعون ، انه تكبر وتجبر ، وجاوز الحد في الطغيان ، حتى ادعى الألوهية
[ قال رب اشرح لي صدري ] اي وسعه ونوره بالايمان والنبوة
[ ويسر لي أمري ] اي سهل علي القيام بما كلفتني من اعباء الرسالة والدعوة


[ واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولي ] اي حل هذه اللكنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي ، قال المفسرون : عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حجره وهو صغير ، فجر لحية فرعون بيده فهم بقتله ، فقالت له آسية : انه لا يعقل وسأريك بيان ذلك ، قدم اليه جمرتين ولؤلؤتين ، فان اخذ اللؤلؤة عرفت انه يعقل ، وان اخذ الجمرة عرفت انه طفل لا يعقل ، فقدم اليه ذلك ، فأخذ الجمرة فجعلها في فيه ، فكان في لسانه حبسة
[ واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ] اي اجعل لي معينا يساعدني ويكون من اهلي وهو اخي هارون
[ اشدد به أزري ] اي لتقوي به يا رب ظهري
[ وأشركه في أمري ] اي اجعله شريكا لي في النبوة وتبليغ الرسالة
[ كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ] اي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ، ونذكرك بالدعاء والثناء عليك
[ إنك كنت بنا بصيرا ] اي عالما بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من افعالنا ، طلب موسى من ربه ان يعينه بأخيه يشد به أزره ، لما يعلم منه من فصاحة اللسان ، وثبات الجنان ، وان يشركه معه في المهمة ، لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته
[ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ] اي اعطيت ما سألت وما طلبت ، ثم ذكره تعالى بالمنن العظام عليه ، فقال سبحانه :
[ ولقد مننا عليك مرة أخرى ] اي انعمنا عليك يا موسى ، بمنة اخرى غير هذه المنة
[ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ] اي ألهمناها ما يلهم مما كان سببا في نجاتك
[ أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم ] اي الهمناها ان ألقِ هذا الطفل في الصندوق ، ثم اطرحيه في نهر النيل ثم ماذا ؟ ومن يتسلمه ؟
[ فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له ] اي يلقيه النهر على شاطئه ، ويأخذه فرعون عدوي وعدوه ، قال في البحر : [ فليلقه ] امر معناه الخبر جاء بصيغة الامر مبالغة ، اذ الامر اقطع الافعال واوجبها
[ وألقيت عليك محبة مني ] اي زرعت في القلوب محبتك ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، حتى أحبك فرعون ، قال ابن عباس : أحبه الله وحببه الى خلقه
[ ولتصنع على عينى ] اي ولتربى بعين الله ، بحفظي ورعايتي
[ إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ] اي حين تمشي اختك وتتبع اثرك ، فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراضع : هل ادلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته ؟ قال المفسرون : لما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، لأن الله حرم عليه المراضع ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة ، فأمرت أخته ان تتبع خبره ، فلما وصلت الى بيت فرعون ورأته ، قالت : هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة ، تتعهد لكم رضاع هذا الطفل ؟ فطلبوا منها إحضارها فأتت بأم موسى ، فلما أخرجت ثديها التقمه ، ففرحت زوجة فرعون فرحا شديدا ، وقالت لها : كوني معى في القصر فقالت : لا استطيع ان اترك بيتي واولادي ، ولكن آخذه معي وآتي لك به كل حين ، فقالت : نعم واحسنت اليها غاية الاحسان ، فذلك قوله تعالى :
[ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ] اي رددناك الى امك لكي تسر بلقائك ، وتطمئن بسلامتك ونجاتك ، ولكيلا تحزن على فراقك
[ وقتلت نفسا فنجيناك من الغم ] اي قتلت القبطي حين اصبحت شابا ، فنجيناك من غم القتل ، وصرفنا عنك شر فرعون وزبانيته ، وفي صحيح مسلم : (وكان قتَله خطأ)
[ وفتناك فتونا ] اى ابتليناك ابتلاء عظيما بانواع من المحن
[ فلبثت سنين في أهل مدين ] اى مكثت سنين عديدة عند شعيب في ارض مدين
[ ثم جئت على قدر يا موسى ] اي جئت على موعد ووقت مقدر للرسالة والنبوة .
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
1- التشويق والحث على الإصغاء [ وهل أتاك حديث موسى ] ؟


2 - الإطناب [ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ] وكان يكفي ان يقول : هي عصاى ، ولكنه توسع في الجواب تلذذا بالخطاب .
3 - الاستعارة التصريحية [ واضمم يدك إلى جناحك ] اصل الجناح للطائر ثم استعير لجنب الانسان ، لأن كل جنب في موضع الجناح للطائر فسميت الجهتان " جناحين " بطريق الاستعارة المكنية .
4 - الاحتراس وهو عند علماء البيان ان يؤتى بشىء يرفع توهم غير المراد مثل قوله : [ بيضاء من غير سوء ] فلو اقتصر على قوله : [ بيضاء ] لأوهم ان ذلك من برص او بهق ، ولذلك احترس بقوله : [ من غيرسوء ] .
5 - الاستعارة التمثيلية [ ولتصنع على عينى ] تمثيل لشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة بمن يصنع بمرأى من الناظر ، لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر اليه فمثًل لذلك بمن يصنع على عين الآخر ، بطريق الاستعارة التمثيلية .
6 - السجع الحسن الذى يزيد الكلام جمالا وبهاء في اواخر الآيات [ فتشقى ، يخشى ، أخفى ، تسعى ] الخ .
فائدة :
قال العلماء : ما نفع اخ اخاه كما نفع موسى هارون ، فقد طلب له من ربه ان يجعله وزيرا له ويكرمه بالرسالة ، فاستجاب الله دعاءه وجعله نبيا مرسلا .
تنبيه :
ذكر تعالى بعض المنن على موسى وعدد منها ستا :
المنة الاولى : الهام أمه صنع الصندوق وإلقاءه في النيل ليربى في بيت فرعون [ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت ] .
الثانية : إلقاء المحبة عليه من الله تعالى ، بحيث لا يراه احد الا أحبه [ وألقيت عليك محبة منى ] .
الثالثة : حفظ الله ورعايته له بالكلاءة والعناية [ ولتصنع على عيني ] .
الرابعة : رده الى أمه مع الإنعام والإكرام [ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ] .
الخامسة : إنجاء موسى من القتل بعد قتله القبطي [ ونجيناك من الغم ] . السادسة : تكليم الله له بعد عودته من ارض مدين وتكليفه بالرسالة [ ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي ] .
قال الله تعالى : [ واصطنعتك لنفسي . . الى . . وذلك جزاء من تزكى ] . من آية ( 41) الى نهاية (76) .
المناسبة :
لما ذكر تعالى نعمته على موسى ، باستجابة دعائه لإعطائه سؤله ذكر هنا ما خصه به من الاصطفاء والاجتباء ، وامره بالذهاب الى فرعون مع اخيه هارون لتبليغه دعوة الله ، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون ، وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله رب العالمين ، حيث أسقط في يد فرعون .
اللغة :
[ اصطنعتك ] اصطفيتك واخترتك ، واصل الاصطناع : اتخاذ الصنيعة ، وهو الخير تسديه الى انسان
[ تنيا ] الونى : الضعف والفتور ، قال العجاج : فماونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وماغبر
[ يفرط ] يتعجل ويبادر الى عقوبتنا ، ومنه الفارط الذي يتقدم القوم الى الماء
[ يسحتكم ] يستأصلكم ويبيدكم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر ، قال الفرزدق : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت او مجلف ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب ، والسحت : المال الحرام ، لأنه يهلك الانسان ويدمره
[ النجوى ] التناجي وهو الاسرار بالكلام
[ أوجس ] أضمر واستشعر الخوف في نفسه .
التفسير :
[ واصطنعتك لنفسي ] اي اخترتك لرسالتي ووحيي
[ اذهب أنت وأخوك بآياتى ] اي اذهب مع هارون بحججي وبراهيني ومعجزاتي ، والمراد بالآيات هنا (اليد والعصا) التي أيد الله بها موسى
[ ولا تنيا في ذكرى ] اي لا تفترا وتقصرا في ذكر الله وتسبيحه ، قال ابن كثير : والمراد ألا يفترا عن ذكر الله ، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له
[ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ] اي تجبر وتكبر وبلغ النهاية في العتو والطغيان
[ فقولا له قولا لينا ] اي قولا لفرعون قولا لطيفا رفيقا


[ لعله يتذكر أو يخشى ] اي لعله يتذكر عظمة الله ، او يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه
[ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ] اي قال موسى وهارون : يا ربنا اننا نخاف ان دعوناه الى الايمان ، ان يعجل علينا العقوبة ، او يجاوز الحد في الإساءة الينا
[ قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى ] اى لا تخافا من سطوته ، انني معكما بالنصرة والعون اسمع جوابه لكما ، وأرى ما يفعل بكما
[ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك ] اي انا رسولان من عند ربك ارسلنا اليك ، وتخصيص الذكر بلفظ [ ربك ] لإعلامه انه انسان مخلوق ، وعبد مملوك لله ، اذ كان يدعي الربوبية
[ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ] اي اطلق سراح بني اسرائيل ، ولا تعذبهم بتكليفهم الاعمال الشاقة
[ قد جئناك بآية من ربك ] اي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا
[ والسلام على من اتبع الهدى ] اى والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن بالله ، قال المفسرون : لم يقصد به التحية ، لأنه ليس بابتداء الخطاب ، وانما قصد به السلامة من عذاب الله وسخطه
[ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ] اي قد اخبرنا الله فيما أوحاه الينا ، ان العذاب الأليم على من كذب انبياء الله ، وأعرض عن الايمان
[ قال فمن ربكما يا موسى ] اي قال فرعون : ومن هذا الرب الذي تدعوني اليه يا موسى ؟ فإني لا اعرفه ؟ ولم يقل : من ربي ؟ لغاية عتوه ونهاية طغيانه ، بل أضافه الى موسى وهارون [ من ربكما ]
[ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ] اي ربنا هو الذي ابدع كل شيء خلقه ، ثم هداه لمنافعه ومصالحه ، وهذا جواب في غاية البلاغة والبيان ، لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها ، فقد اعطى العين الهيئة التى تطابق الابصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك اليد والرجل والانف واللسان ، قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ، ما أخصره وأجمعه وأبينه ؟ لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف ؟
[ قال فما بال القرون الأولى ] اي قال فرعون : ما حال من هلك من القرون الماضية ؟ لم لم يبعثوا ولم يحاسبوا ان كان ما تقول حقا ؟ قال ابن كثير : لما أخبر موسى بأن ربه الذي ارسله هو الذي خلق ورزق ، وقدر فهدى ، شرع فرعون يحتج بالقرون الاولى ، كأنه يقول : ما بالهم إذ كان الامر كذلك ، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره ؟
[ قال علمها عند ربى في كتاب ] اي قال موسى : علم احوالها واعمالها عند ربي مسطر في اللوح المحفوظ
[ لا يضل ربي ولاينسى ] اى لا يخطىء ربي ولا يغيب عن علمه شىء منها . . ثم شرع موسى يبين له الدلائل على وجود الله ، وآثار قدرته الباهرة فقال :
[ الذى جعل لكم الأرض مهدا ] اي جعل الارض كالمهد اي كالبساط والفراش ، تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم
[ وسلك لكم فيها سبلا ] اي جعل لكم طرقا تسلكونها فيها ، لقضاء مصالحكم
[ وأنزل من السماء ماء ] اي انزل لكم من السحاب ، المطر عذبا فراتا
[ فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ] اي فأخرج بذلك الماء انواعا من النباتات ، المختلفة الطعم والشكل والرائحة ، كل صنف منها زوج ، وفيه التفات من الغيبة الى المتكلم ، تنبيها على عظمة الله
[ كلوا وارعوا أنعامكم ] اى كلوا من هذه النباتات والثمار ، واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي اخرجه الله ، والأمر للإباحة تذكيرا لهم بالنعم
[ إن في ذلك لآيات لأولي النهى ] اي ان فيما ذكر لعلامات واضحة لاصحاب العقول السليمة ، على وجود الله ووحدانيته
[ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ] اي من الارض خلقناكم ايها الناس ، واليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون ترابا
[ ومنها نخرجكم تارة أخرى ] اي ومن الارض نخرجكم مرة اخرى للبعث والحساب . . ثم اخبر تعالى عن عتو فرعون وعناده فقال سبحانه :


[ ولقد أريناه آياتنا كلها ] اي والله لقد بصرنا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوة موسى من (العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد) ، وسائر الآيات التسع
[ فكذب وأبى ] اي كذب بها مع وضوحها وزعم انها سحر ، وأبى الإيمان والطاعة لعتوه واستكباره
[ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ] اي قال فرعون : أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من ارض مصر ؟
[ فلنأتينك بسحر مثله ] اي فلنعارضنك بسحر مثل الذي جئت به ، ليظهر للناس أنك ساحر ، ولست برسول
[ فاجعل بيننا وبينك موعدا ] اي عين لنا وقت اجتماع
[ لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ] اي لا نخلف ذلك الوعد ، لا من جهتنا ولا من جهتك ، ويكون بمكان معين ، ووقت معين (( هذا ما اختاره ابن كثير في تفسير {مكانا سوى} واختار الطبرى أن المراد مكانا تستوي مسافته على الفريقين ، والقول الأول أظهر ، بدليل تعيين الزمان والمكان له في الآية بعدها ))
[ قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ] اي قال موسى : موعدنا للاجتماع يوم العيد -يوم من ايام اعيادهم - وان يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار ، قال المفسرون : وانما عين ذلك اليوم للمبارزة ، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رءوس الاشهاد ، ويشيع ذلك في الاقطار ، بظهور معجزته للناس
[ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ] اي انصرف فرعون فجمع السحرة ، ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم ، وما جمعه من كيد ليطفىء نور الله ، قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي
[ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ] اي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون : ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل
[ وقد خاب من افترى ] اي خسر وهلك من كذب على الله . . قدم لهم النصح والإنذار ، لعلهم يثوبون الى الهدى ، ولما سمع السحرة منه هذه المقالة ، هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته ، ولذلك تنازعوا في أمره
[ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ] اي اختلفوا في أمر موسى ، فقال بعضهم : ما هذا بقول ساحر ، واخفوا ذلك عن الناس ، وأخذوا يتناجون سرا
[ قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ] اي قالوا بعد التناظر والتشاور : ما هذان الا ساحران ، يريدان الاستيلاء على ارض مصر ، واخراجكم منها بهذا السحر
[ ويذهبا بطريقتكم المثلى ] اي غرضهما افساد دينكم الذي انتم عليه ، والذي هو افضل المذاهب والاديان ، قال الزمخشري : والظاهر انهم تشاوروا في السر ، وتجاذبوا اهداب القول ، ثم قالوا : [ إن هذان لساحران ] فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره ، خوفا من غلبة موسى وهارون لهما ، وتثبيطا للناس من اتباعهما
[ فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا ] اي احكموا أمركم واعزموا عليه ، ولا تتنازعوا وارموا عن قوس واحدة ، ثم ائتوا الى الميدان مصطفين ، ليكون أهيب في صدور الناظرين
[ وقد أفلح اليوم من استعلى ] اي فاز اليوم من علا وغلب ، قال المفسرون : أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون ، من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة ، مع التقريب لهم والتكريم ، كما قال تعالى : [ قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ؟ قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ]
[ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ] اي قال السحرة لموسى : إما ان تبدأ أنت بالإلقاء او نبدأ نحن ؟ خيروه ثقة منهم بالغلبة لموسى ، لأنهم كانوا يعتقدون ، ان أحدا لا يقاومهم في هذا الميدان


[ قال بل ألقوا ] اي قال لهم موسى : بل ابدءوا انتم بالإلقاء ، قال ابو السعود : قال ذلك مقابلة للأدب بأحسن من ادبهم ، حيث بت القول بإلقائهم اولا ، واظهارا لعدم المبالاة بسحرهم ، ليبرزوا ما معهم ، ويستفرغوا أقصى جهدهم ، وقصارى وسعهم ، ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه
[ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه من سحرهم أنها تسعى ] في الكلام حذف دل عليه المعنى ، اي فألقوا فإذا تلك الحبال والعصي التي القوها يتخيلها موسى ويظنها - من عظمة السحر - انها حيات تتحرك وتسعى على بطونها ، والتعبير يوحي بعظمة السحر ، حتى ان موسى فزع منها واضطرب
[ فأوجس في نفسه خيفة موسى ] اي احس موسى الخوف في نفسه ، بمتقضى الطبيعة البشرية ، لانه رأى شيئا هائلا
[ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ] اى قلنا لموسى : لا تخف مما توهمته ، فإنك انت الغالب المنتصر
[ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ] اي القِ عصاك التي بيمينك ، تبتلع بفمها ما صنعوه من السحر
[ إنما صنعوا كيد ساحر ] اي ان الذى اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر
[ ولا يفلح الساحر حيث أتى ] اي لا يسعد الساحر حيث كان ، ولا يفوز بمطلوبه لانه كاذب مضلل
[ فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ] اي فألقى موسى عصاه ، فابتلعت ما صنعوا ، فخر السحرة حينئذ سجدا لله رب العالمين ، لما رأوا من الآية الباهرة ، قال ابن كثير : لما القى موسى العصا صارت ثعبانا عظيما هائلا ، ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي ، حتى لم تبق شيئا الا ابتلعته ، والناس ينظرون الى ذلك عيانا نهارا ، فلما عاين السحرذلك ، وشاهدوه علموا علم اليقين ، ان هذا ليس من قبيل السحر والحيل ، وانه حق لا مرية فيه ، فعند ذلك وقعوا سجدا لله ، فقامت المعجزة واتضح البرهان ، ووقع الحق وبطل السحر ، قال ابن عباس : كانوا اول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة
[ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ] اي قال فرعون للسحرة : آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به ، من قبل ان اسمح لكم بذلك ، وقبل ان تستأذنوني ؟
[ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ] اي انه رئيسكم الذي علمكم السحر ، فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي ، قال القرطبي : وانما اراد فرعون بقوله هذا ان يلبس على الناس ، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم ، ثم توعدهم وهددهم بالقتل والتعذيب ، فقال :
[ فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ] اي فوالله لأقطعن الأيدي والأرجل منكم مختلفات ، بقطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، او بالعكس
[ ولأصلبنكم في جذوع النخل ] اي لأربطنكم على جذوع النخل ، واقتلنكم شر قتلة
[ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ] اي ولتعلمن ايها السحرة ، من هو اشد منا عذابا وأدوم ؟ هل انا ؟ ام رب موسى الذي صدقتم به وآمنتم ؟
[ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ] اي قال السحرة : لن نختارك ونفضلك على الهدى والايمان ، الذي جاءنا من الله ، ولو كان في ذلك هلاكنا
[ والذي فطرنا ] اي مقسمين بالله الذي خلقنا
[ فاقض ما أنت قاض ] اى فاصنع ما انت صانع
[ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ] اي انما ينفذ امرك في هذه الحياة الدنيا ، وهي فانية زائلة ، ورغبتنا فى النعيم الخالد ، قال عكرمة : لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة ، فلذلك قالوا ما قالوا
[ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ] اي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها ، وما صدر منا من الكفر والمعاصي
[ وما أكرهتنا عليه من السحر ] اي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإطفاء نور الله
[ والله خير وأبقى ] اي والله خير منك ثوابا ، وأبقي عذابا ، وهذا جواب قوله : [ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقي ]


[ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم ] هذا من تتمة كلام السحرة عظة لفرعون اي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرم ، باقترافه المعاصي وموته على الكفر ، فإن له نار جهنم
[ لا يموت فيها ولا يحيا ] اى لا يموت في جهنم فينقضي عذابه ، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة
[ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ] اى ومن يلقى ربه مؤمنا موحدا ، وقد عمل الطاعات وترك المنهيات
[ فأولئك لهم الدرجات العلى ] اي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات ، لهم المنازل الرفيعة عند الله
[ جنات عدن ] اى جنات اقامة ذات الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات ، والمساكن الطيبات
[ تجري من تحتها الأنهار ] اى تجري من تحت غرفها وسررها انهار الجنة من الخمر ، والعسل ، واللبن ، والماء
[ خالدين فيها ] اى ماكثين في الجنة دوما لا يخرجون منها ابدا
[ وذلك جزاء من تزكى ] اي وذلك ثواب من تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، وفي الحديث : (الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض ، والفردوس اعلاها درجة ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ) .
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
1 - الاستعارة اللطيفة [ واصطنعتك لنفسي ] شبه ما خوله به من القرب والاصطفاء بحال من يراه الملك اهلا للكرامة وقرب المنزلة ، لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه لنفسه ، ويختاره لخلته ، ويصطفيه لأموره الجليلة ، واستعار لفظ اصطنع لذلك ، ففيه استعارة لطيفة ، تسمى (الاستعارة التبعية) .
2 - المقابلة اللطيفة [ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ] حيث قابل بين [ منها ] و[ فيها ] وبين الخلق والاعادة ، وهذا من المحسنات البديعية .
3 - الإيجاز بالحذف [ بل ألقوا فإذا حبالهم ] اي فألقوا فإذا حبالهم حذف لدلالة المعنى عليه ، ومثله [ فألقي السحرة سجدا ] بعد قوله [ وألق ما في يمينك ] حذف منه كلام طويل ، وهو : فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر فألقي السحرة سجدا ، وانما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه ويسمى هذا في علم البلاغة (إيجاز حذف ) كما يقولون : البلاغةُ الإيجاز .
4 - الطباق بين [ يموت . . ويحيا ] وبين [ نعيد . . ونخرج ] .
5 - المقابلة بين [ إنه من يأت ربه مجرما ] وبين [ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ] والمقابلة هي ان يؤتى بمعنيين او اكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك ، كما في هذه الآيات الكريمة .
6 - السجع الحسن غير المتكلف في مثل [ سوى ، ضحى ، افترى ، يحيا ، تزكى ] الخ .
7 - المؤكدات [ إنك أنت الأعلى ] أكد الخبر بعدة مؤكدات وهي [ إن ] المفيدة للتأكيد ، وتكرير الضمير [ أنت ] وتعريف الخبر [ الأعلى ] ولفظ العلو الدال على الغلبة ، وصيغة التفضيل [ الأعلى ] ولله در التنزيل ما أبلغه وأروعه ، وهذا من خصائص علم المعاني .
تنبيه :
لم تذكر الآيات الكريمة ان فرعون فعل بالسحرة ما هددهم به ، وقد ذكر المفسرون انه أنفذ فيهم وعيده ، فقطع ايديهم وارجلهم وصلبهم فماتوا على الإيمان ، ولهذا قال ابن عباس : كانوا في اول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة .
قال الله تعالى : [ ولقد أوحينا إلى موسى . . ] الى قوله [ وسع كل شىء علما ] . من آية (77) الى نهاية آية (98 ) .
المناسبة :
لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون ، وتشير الآيات هنا الى عناية الله تعالى بموسى وقومه ، وانجائهم واهلاك عدوهم ، وتذكرهم بنعم الله العظمى ، ومننه الكبرى على بني اسرائيل ، وما وصاهم به من المحافظة على شكرها ، وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها ، ثم تذكر الآيات انتكاس بني اسرائيل بعبادتهم العجل ، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر ، بقصد الإيجاز ، لتتكامل سلسلة حلقات القصة .
اللغة :
[ دركا ] لحاقا مصدر أدركه إذا لحقه


[ تطغوا ] الطغيان : مجاوزة الحد الى ما لا ينبغي
[ هوى ] صار الى الهاوية وهي قعر النار ، من هوى يهوي اذا سقط من علو الى سفل
[ بملكنا ] الملك : بفتح الميم وسكون اللام : الطاقة والقدرة ومعناه بأمر كنا نملكه من جهتنا
[ أوزارا ] أثقالا ومنه سمي الذنب وزرا لأنه يثقل الإنسان
[ خوار ] الخوار : صوت البقر
[ يا ابن أم ] اي يا ابن امي واللفظة تدل على الاستعطاف
[ سولت ] حسنت وزينت .
التفسير :
[ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ] اي اوحينا الى موسى - بعد ان تمادى فرعون في الظغيان - أن سر ببني اسرائيل ليلا من ارض مصر
[ فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ] اي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقا يابسا يمرون عليه
[ لا تخاف دركا ولا تخشى ] اي لا تخاف لحاقا من فرعون وجنوده ، ولا تخشى الغرق في البحر
[ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ] اي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم ، فأصابهم من البحر ما أصابهم ، وغشيهم من الاهوال ما لا يعلم كنهه الا الله ، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغرق
[ وأضل فرعون قومه وما هدى ] اي اضلهم عن الرشد ، وما هداهم الى خير ولا نجاة ، وفيه تهكم بفرعون في قوله : [ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ]
[ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ] خطاب لبني اسرائيل بعد خروجهم من البحر ، وإغراق فرعون وجنوده ، والمعنى : اذكروا يا بني اسرائيل نعمتي العظيمة عليكم ، حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب
[ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ] اي وعدنا موسى للمناجاة وإنزال التوراة عليه ، جانب طور سيناء الأيمن ، وانما نسبت المواعدة اليهم ، لكون منفعتها راجعة اليهم ، اذ في نزول التوراة صلاح دينهم ودنياهم
[ ونزلنا عليكم المن والسلوى ] اي رزقناكم وانتم في " أرض التيه " بالمن وهو يشبه العسل ، والسلوى وهو من اجود الطيور لحما ، تفضلا منا عليكم . . وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن ، حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإنجاء ، ثم بالنعمة الدينية ، ثم بالنعمة الدنيوية
[ كلوا من طيبات ما رزقناكم ] اي وقلنا لكم : كلوا من الحلال اللذيذ الذي انعمت به عليكم
[ ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ] اي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري ، فينزل بكم عذابي
[ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ] اي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي ، فقد هلك وشقي
[ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ] اي واني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك ، وحسن ايمانه وعمله ، ثم استقام على الهدى والايمان ، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس
[ وما أعجلك عن قومك يا موسى ] أي أي شيء عجل بك عن قومك يا موسى ؟ قال الزمخشرى : كان موسى قد مضى مع النقباء ، الذين اختارهم من قومه الى الطور على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقا الى كلام ربه
[ قال هم أولاء على أثري ] اي قومي قريبون مني لم اتقدمهم الا بشيء يسير ، وهم يأتون بعدي
[ وعجلت اليك رب لترضى ] اي وعجلت الى الموضع الذي أمرتني بالمجيء اليه ، لتزداد رضى عني يا رب ، اعتذر موسى اولا ثم بين السبب في اسراعه قبل قومه ، وهو الشوق الى مناجاة الله ابتغاة لرضى الله
[ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك ] اي ابتليناهم بعبادة العجل ، من بعد ذهابك من بينهم


[ وأضلهم السامري ] اي وأوقعهم السامري فى الضلالة ، بسبب تزيينه لهم عبادة العجل ، وكان السامري ساحرا منافقا من قوم يعبدون البقر ، قال المفسرون : كان موسى حين جاء لمناجاة ربه ، قد استخلف على بني اسرائيل أخاه (هارون ) وأمره ان يتعهدهم بالإقامة على طاعة الله ، وفي اثناء غيبة موسى جمع السامري الحلى ثم صنع منها عجلا ، ودعاهم الى عبادته فعكفوا عليه ، وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوما
[ قرجع موسى الى قومه غضبان أسفا ] اي رجع موسى من الطور - بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة - غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل
[ قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ] اي ألم يعدكم ربكم بإنزال التوراة فيها الهدى والنور ؟ والاستفهام للتوبيخ
[ أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ] اي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد ؟ ام أردتم بصنيعكم هذا ، أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم وعدي ؟ قال ابو حيان : وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه السلام ، ولا يخالفوا أمر الله أبدا ، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل
[ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ] اي ما أخلفنا العهد بإرادتنا وإختيارنا ، بل كنا مكرهين
[ ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها ] اي حملنا اثقالا واحمالا من حلى آل فرعون ، فطرحناها في النار بأمر السامرى ، قال مجاهد : [ أوزارا ] اي اثقالا وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون
[ فكذلك ألقى السامرى ] اي كذلك فعل السامري ، ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار ، قال المفسرون : كان بنو اسرائيل قد استعاروا من القبط الحلي ، قبل خروجهم من مصر ، فلما أبطأ موسى في العودة اليهم ، قال لهم السامري : انما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي ، فجمعوه ودفعوه الى السامري ، فرمي به في النار ، وصاغ لهم منه عجلا ، ثم ألقى عليه قبضةَ من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك قوله تعالى :
[ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ] اي صاغ لهم السامري من تلك الحلى المذابة عجلا جسدا بلا روح ، له خوار وهو صوت البقر (( قال الرازي : قيل إنه صار حيا وخار ، وقيل : لم تحله الحياة وإنما جعل فيه منافذ تدخل فيه الريح فيخرج له صوت يشبه صوت العجل
[ فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ] اي هذا العجل إلهكم وإله موسى ، فنسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور ، قال قتادة : نسي موسى ربه عندكم ، فعكفوا عليه يعبدونه ، قال تعالى ردا عليهم ، وبيانا لسخافة عقولهم في عبادة العجل
[ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ] اي أفلا يعلمون ان العجل الذي زعموا انه إلههم لا يرد لهم جوابا ، ولا يقدر ان يدفع عنهم ضرا او يجلب لهم نفعا ؟ فكيف يكون إلها ؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع
[ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به ] اى قال لهم هارون ناصحا ومذكرا من قبل رجوع موسى اليهم : انما ابتليتم وأضللتم بهذا العجل
[ وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ] وإن ربكم المستحق للعبادة هو (الرحمن ) لا العجل ، فاقتدوا بي فيما أدعوكم اليه من عبادة الله ، واطيعوا امري بترك عبادة العجل


[ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ] اي قالوا : لن نزال مقيمين على عبادة العجل ، حتى يعود الينا موسى ، فننظر في الأمر (( قال سيد قطب عليه الرحمة في تفسير الظلال : " ما كاد بنو إسرائيل يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل وعكفوا على عجل الذهب ، وفي بلاهة فكر ، وبلادة روح قالوا : {هذا إلهكم وإله موسى } راح يبحث عنه عند الجبل وهو هنا معنا وقد نسي موسى الطريق الى ربه وضل عنه ، وهى قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم بأنه غير موصول بربه حى ليضل الطريق إليه فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه ، وهذا العجل لم يكن حيا يسمع قولهم ويستجيب نداءهم لأنه جسد لا حياة فيه ، فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية ، ولقد نصحهم هارون ولكنهم بدلا من الاستجابة التووا وتملصوا من نصحه " ))
[ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ] ؟ في الكلام حذف اي فلما رجع موسى ، ووجدهم عاكفين على عبادة العجل ، امتلأ غضبا لله ، وأخذ برأس اخيه هارون يجره اليه ، وقال له : اى شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله ، ان لا تتبعني في الغضب لله ، والزجر لهم عن ذلك الضلال ؟
[ أفعصيت أمري ] اي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي ؟ وأمره هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه [ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ]
[ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسي ] اي قال له هارون استعطافا وترقيقا : يا ابن أمي - اي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي ، قال ابن عباس : أخذ شعر رأسه بيمينه ، ولحيته بشماله ، من شدة غيظه وفرط غضبه ، لأن الغيرة في الله ملكته
[ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ] اى اني خفت ان زجرتهم بالقوة ، أن يقع قتال بينهم ، فتلومني على ذلك وتقول لي : لقد أشعلت الفتنة بينهم
[ ولم ترقب قولي ] اى لم تنتظر أمرى فيهم ، فمن اجل ذلك رايت ألا أفعل شيئا ، حتى ترجع اليهم ، لتتدارك الأمر بنفسك ، قال ابن عباس : وكان هارون هائبا مطيعا له
[ قال فما خطبك يا سامري ] اي ما شأنك فيما صنعت ؟ وما الذي حملك عليه يا سامري ؟
[ قال بصرت بما لم يبصروا به ] اي قال السامري : رأيت ما لم يروه ، وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة ، فما ألقيته على شيء إلا دبت فيه الحياة
[ فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ] اي قبضت شيئا من أثر فرس جبريل ، فطرحتها على العجل فكان له خوار
[ وكذلك سولت لي نفسي ] اي وكذلك حسنت وزينت لى نفسي
[ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ] اي قال موسى للسامرى : عقوبتك في الدنيا الا تمس أحدا ولا يمسك أحد ، قال الحسن : جعل الله عقوبة السامري ألا يمس الناس ولا يمسوه ، عقوبة له في الدنيا ؟ وكان الله عز وجل شدد عليه المحنة عقوبة له .
[ وإن لك موعدا لن تخلفه ] اي وان لك موعدا للعذاب في الآخرة لن يتخلف
[ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ] اي انظر الى هذا العجل الذي اقمت ملازما على عبادته
[ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ] اي لنحرقنه بالنار ، ثم لنطيرنه رمادا في البحر ، لا يبقى منه عين ولا أثر
[ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ] اي يقول موسى لبني اسرائيل : انما معبودكم المستحق للعبادة ، هو الله الذى لا رب سواه
[ وسع كل شيء علما ] اي وسع علمه كل شيء ، فلا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي :
1 - التهويل [ فغشيهم من اليم ما غشيهم ] .
2 - الطباق بين [ أضل . . وهدى ] .
3 - الاستعارة [ فقد هوى ] استعار لفظ الهوي وهو السقوط من علو الى سفل للهلاك والدمار .


4 - صيغة المبالغة [ وإني لغفار ] اي كثير المغفرة للذنوب .
5 - الطباق [ ضرا ولا نفعا ] .
6 - الايجاز بالحذف في مواطن عديدة .
7 - السجع الحسن غير المتكلف مثل [ أمري ، قولي ، نفسي ] و[ نفعا ، علما ، نسفا ] الخ
تنبيه :
انما عبد بنو اسرائيل العجل بسبب فتنة السامري ، وقد كانت بذور الوثنية راسخة في قلوبهم ، ولذلك لما نجاهم الله من طغيان فرعون طلبوا من موسى ان يصنع لهم تمثالا ليعبدوه كما قال تعالى : [ وجاوزنا ببنى اسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ] فلا عجب اذا ان يعكفوا على عبادة عجل من ذهب له خوار ، لانهم كالبقر لا يفقهون ولا يعقلون ، والجنس يألفه الجنس !
قال الله تعالى : [ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق . . ] الى قوله [ من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ] من آية (99) الى نهاية السورة الكريمة .
المناسبة :
لما ذكر تعالى قصة موسى بالتفصيل ، أعقبها بذكر ان هذا القصص وحى من الله ، وان محمدا ، ما كان له علم بهذه الاخبار والانباء العجيبة ، لولا ان الله تعالى اوحى اليه ، وذلك من اكبر الدلائل والبراهين على صدق الرسالة ، وصحة ما جاء به خاتم المرسلين (ص).
اللغة :
[ قاعا ] القاع : الارض الملساء التي لا نبات فيها ولا بناء
[ صفصفا ] الضفصف : المستوي من الارض ، كأنه على صف واحد في استوائه
[ أمتا ] الأمت : المكان المرتفع كالتل والهضبة
[ همسا ] صوتا خفيا
[ عنت ] ذلت وخضعت قال أمية : " لعزته تعنو الوجوه وتسجد " ، قال الجوهري : عنا يعنو خضع وذل ، وأعناه غيره ومنه الآية [ وعنت الوجوه ]
[ هضما ] الهضم : النقص يقال : هضمه حقه اذا انقصه ، والفرق بين الظلم والهضم ، ان الظلم المنع من الحق كله ، والهضم المنع من بعضه
[ تضحى ] ضحى للشمس برز لها حتى يصيبه حرها ، قال ابن أبي ربيعة : رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيحصر
[ ضنكا ] الضنك : الضيق والشدة يقال : منزل ضنك وعيش ضنك اذا كان شديدا ضيقا
[ سوآتهما ] عوراتهما
[ فتربصوا ] انتظروا
[ الصراط السوي ] الطريق المستقيم .
التفسير :
[ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ] اي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون ، وما فيه من الانباء الغريبة ، كذلك نقص عليك اخبار الامم المتقدمين
[ وقد آتيناك من لدنا ذكرا ] اي اعطيناك من عندنا قرآنا يتلى ، منطويا على المعجزات الباهرة ، قال في البحر : امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والاخبار ، الدال على معجزات أوتيها عليه السلام
[ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ] اي من اعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ، ولم يتبع ما فيه ، فإنه يحمل يوم القيامة حملا ثقيلا ، وذنبا عظيما يثقله في جهنم
[ خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ] اي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم ، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملا لهم ، شبه الوزر بالحمل لثقله
[ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ] اي يوم ينفخ إسرافيل في الصور " النفخة الثانية " ونحشر المجرمين الى ارض المحشر ، زرق العيون سود الوجوه ، قال القرطبي : تشوه خلقتهم بزرقة العيون وسواد الوجوه
[ يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ] اى يتهامسون بينهم ويسر بعضهم الى بعض قائلين : ما مكثتم في الدنيا الا عشر ليال ، استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والاهوال
[ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ] اي نحن اعلم بما يتناجون بينهم اذ يقول اعقلهم واعدلهم قولا : ما لبثتم الا يوما واحدا
[ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ] اي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم : إن ربي يفتتها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فيطيرها


[ فيذرها قاعا صفصفا ] اي فيتركها ارضا ملساء مستوية ، لا نبات فيها ولا بناء
[ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ] اي لا ترى فيها انخفاضا ولا ارتفاعا
[ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ] اي في ذلك اليوم العصيب يتبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر ، يأتونه سراعا لا يزيغون عنه ولا ينحرفون
[ وخشعت الأصوات للرحمن ] اي ذلت وسكنت أصوات الخلائق هيبة من الرحمن جل وعلا
[ فلا تسمع إلا همسا ] اي لا تسمع الا صوتا خفيا لا يكاد يسمع ، وعن ابن عباس : هو همس الاقدام في مشيها نحو المحشر (( وعلى هذا القول لا يراد بالهمس صوت الكلام ، إنما هو همس الأقدام ))
[ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ] اي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحدا ، إلا لمن أذن له الرحمن في ان يشفع له ، ورضي لأجله شفاعة الشافع ، وهو الذي كان في الدنيا من اهل " لا اله الا الله " قاله ابن عباس
[ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ] اي يعلم تعالى احوال الخلائق ، فلا تخفى عليه خافية من امور الدنيا وامور الآخرة
[ ولا يحيطون به علما ] اي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا (( وقيل المراد : لا يحيطون بمعرفة ذاته إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله ، واختاره في التسهيل ))
[ وعنت الوجوه للحي القيوم ] اي ذلت وخضعت وجوه الخلائق للواحد القهار ، جبار السموات والارض الذي لا يموت ، قال الزمخشرى : المراد بالوجوه وجوه العصاة وانهم اذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب ، صارت وجوههم عانية اي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى كقوله : [ سيئت وجوه الذين كفروا ]
[ وقد خاب من حمل ظلما ] اي خسر من اشرك بالله ، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه
[ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ] اي من قدم الاعمال الصالحة بشرط الايمان
[ فلا يخاف ظلما ولا هضما ] اي فلا يخاف ظلما بزيادة سيئاته ، ولا بخسا ونقصا لحسناته
[ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ] اي مثل إنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة ، انزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ، ليعرفوا انه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر
[ وصرفنا فيه من الوعيد ] اي كررنا فيه الانذار والوعيد
[ لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ] اي كي يتقوا الكفر والمعاصي ، او يحدث لهم موعظة في القلوب ، ينشأ عنها امتثال الاوامر واجتناب النواهي
[ فتعالى الله الملك الحق ] اي جل الله وتقدس الملك الحق ، الذي قهر سلطانه كل جبار عما يصفه به المشركون من خلقه
[ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه ] اي اذا أقرأك جبريل القرآن ، فلا تتعجل بالقراءة معه ، بل استمع اليه واصبر حتى يفرغ من تلاوته وحينئذ تقرأه أنت ، قال ابن عباس : كان (ص) يبادر جبريل فيقرأ قبل ان يفرغ جبريل من الوحي حرصا على حفظ القرآن ، ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذلك ، قال القرطبي : وهذا كقوله تعالى : [ لا تحرك به لسانك لتعجل به ]
[ وقل رب زدني علما ] اي سل الله عز وجل زيادة العلم النافع ، قال الطبري : أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم
[ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ] اي وصيناه ان لا يأكل من الشجرة من القديم
[ فنسى ولم نجد له عزما ] اي نسي امرنا ، ولم نجد له حزما وصبرا عما نهيناه عنه
[ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ] اي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، سجود (تحية وتكريم ) فامتثلوا الأمر إلا إبليس ، فإنه أبى السجود وعصى أمر ربه ، قال الصاوي : كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن ، تعليما للعباد امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وتذكيرا لهم بعداوة ابليس لأبيهم آدم
[ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك ] اى ونبهنا آدم فقلنا له : ان ابليس شديد العداوة لك ولحواء


[ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ] اي لا تطيعاه فيكون سببا لإخراجكما من الجنة فتشقيان ، وانما اقتصر على شقائه مراعاة للفواصل ، ولاستلزام شقائه لشقائها ، قال ابن كثير : المعنى إياك ان تسعى في اخراجك من الجنة ، فتتعب وتشقى في طلب رزقك ، فإنك ههنا في عيش رغيد ، بلا كلفة ولا مشقة
[ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ] اي ان لك يا آدم ألا ينالك في الجنة الجوع ولا العري
[ وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ] اي ولك ايضا ألا يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس ، لأن الجنة دار السرور والحبور ، لا تعب فيها ولا نصب ، ولا حر ولا ظمأ ، بخلاف دار الدنيا
[ فوسوس إليه الشيطان ] اي حدثه خفية بطريق الوسوسة
[ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ] اى قال له ابليس اللعين : هل أدلك يا آدم على شجرة من أكل منها خلد ، ولم يمت أصلا ، ونال الملك الدائم الذي لا يزول أبدا ؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ، ومتى كان اللعين ناصحا ؟
[ فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما ] اى أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما ، قال ابن عباس : عريا عن النور الذى كان الله تعالى قد ألبسهما إياه حتى بدت فروجهما
[ وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ] اي شرعا يأخذان من اوراق الجنة ، ويغطيان عوراتهما ليستترا بها
[ وعصى آدم ربه فغوى ] اى خالف آدم أمر ربه ، بالأكل من الشجرة ، فضل عن المطلوب الذى هو الخلود في الجنة ، حيث اغتر بقول العدو ، قال ابو السعود : وفي وصفه بالعصيان والغواية - مع صغر زلته - تعظيم لها ، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها
[ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ] اي ثم اصطفاه ربه فقربه اليه ، وقَبِل توبته وهداه الى الثبات على التوبة ، والتمسك بأسباب الطاعة
[ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ] اي قال الله لآدم وحواء : انزلا من الجنة الى الارض مجتمعين ، بعض ذريتكما لبعض عدو ، بسبب الكسب والمعاش ، واختلاف الطبائع والرغبات ، قال الزمخشري : لما كان آدم وحواء أصلَي البشر جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم
[ فإما يأتينكم مني هدى ] اى فإن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم
[ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ] اي فمن تمسك بشريعتي واتبع رسلى ، فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، قال ابن عباس : ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ، ألا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، وتلا الآية
[ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ] اى ومن اعرض عن امري وما انزلته على رسلي من الشرائع والاحكام ، فإن له في الدنيا معيشة قاسية شديدة
[ ونحشره يوم القيامة أعمى ] اى ونحشره في الآخرة أعمى البصر ، قال ابن كثير : من أعرض عن أمر الله وتناساه ، فإن له حياة ضنكا في الدنيا ، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق شديد الضيق لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه في قلق وحيرة وشك ، وقيل : يضيق عليه قبره حتى تختلف اضلاعه فيه
[ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ] اي قال الكافر : يا رب بأى ذنب عاقبتني بالعمى ، وقد كنت في الدنيا بصيرا ؟
[ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ] اى قال الله تعالى له : لقد أتتك آياتنا واضحة جلية ، فتعاميت عنها وتركتها ، وكذلك تترك اليوم في العذاب جزاء وفاقا
[ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ] اي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله ، نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات ، ولم يصدق بكلام ربه وآياته البينات
[ ولعذاب الآخرة أشد وأبقي ] اى عذاب جهنم اشد من عذاب الدنيا ، لأن عذابها أدوم وأثبت ، لانه لا ينقطع ولا ينقضي


[ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون ] اي أفلم يتبين لكفار مكة الذين كذبوك ، كم أهلكنا قبلهم من الامم الخالية ، المكذبين لرسلهم ؟
[ يمشون في مساكنهم ] اي يرون مساكن عاد وثمود ، ويعاينون آثار هلاكهم ، أفلا يتعظون ويعتبرون ؟
[ إن في ذلك لآيات لأولي النهى ] اي ان فى آثار هذه الامم البائدة ، لدلالات وعبرا ، لذوي العقول السليمة
[ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ] اى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم ، ووقت مسمى لهلاكهم ، لكان العذاب واقعا بهم ، قال الفراء : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما اي لكان العذاب لازما لهم ، وانما اخره لتعتدل رءوس الآى
[ فاصبر على ما يقولون ] اي فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون من قومك
[ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ] اى صل وانت حامد لربك ، قبل طلوع الشمس (صلاة الصبح ) وقبل غروبها (صلاة العصر)
[ ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار ] اى وصل لربك في ساعات الليل ، في اول النهار وآخره
[ لعلك ترضى ] اي لعلك تعطى ما يرضيك ، قال القرطبى : كثر المفسرين ان هذه الآية اشارة الى الصلوات الخمس [ قبل طلوع الشمس ] صلاة الصبح [ وقبل غروبها ] صلاة العصر [ ومن آناء الليل ] صلاة العشاء [ وأطراف النهار ] صلاة المغرب والظهر ، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير
[ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ] اى لا تنظر الى ما متعنا به اصنافا من الكفار ، من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع
[ زهرة الحياة الدنيا ] اي زينة الحياة الدنيا
[ لنفتنهم فيه ] اي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم ، حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم
[ ورزق ربك خير وأبقى ] اي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم ، قال المفسرون : الخطاب للرسول ، والمراد به أمته ، لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا ، وأشد رغبة فيما عند الله
[ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ] اى وأمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة ، واصبر أنت على أدائها بخشوعها وآدابها
[ لا نسألك رزقا نحن نرزقك ] اي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك ، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم
[ والعاقبة للتقوى ] اي العاقبة الحميدة لأهل التقوى ، قال ابن كثير : اي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله
[ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ] اي قال المشركون : هلا يأتينا محمد بمعجزة تدل على صدقه ؟
[ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ] اي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام ، المحتوي على أخبار الامم الماضية ؟ والاستفهام للتوييخ والتقريع ، بين تعالى ان هذا القرآن ، الذي سبق التبشير به في الكتب الإلهية السابقة ، اعظم الآيات في الاعجاز ، وهو الآية الباقية الى يوم القيامة
[ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ] اي لو انا اهلكنا كفار مكة ، من قبل نزول القرآن وبعثة محمد ،
[ لقالوا ربنا لولا أرسلت الينا رسولا ] اي لقالوا يا ربنا : هلا أرسلت الينا رسولا حتى نؤمن به ونتبعه
[ فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ] اي فنتمسك بآياتك ، من قبل ان نذل بالعذاب ، ونفتضح على رءوس الاشهاد قال المفسرون : اراد تعالى ان يبين أنه لا حجة لأحد على الله بعد ارسال الرسل وانزال الكتب ، فلم يترك لأحد حجة ولا عذرا
[ قل كل متربص ] اي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين : كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان ، ولمن يكون النصر
[ فتربصوا ] امر تهديد اي فانتظروا العاقبة والنتيجة
[ فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ] اي فستعلمون عن قريب ، من هم اصحاب الطريق المستقيم ، هل نحن ام انتم ؟


[ ومن اهتدى ] اي ومن اهتدى الى الحق وسبيل الرشاد ، ومن بقى على الضلال ؟ قال القرطبي : وفي هذا ضرب من الوعيد ، والتخويف والتهديد ، ختمت به السورة الكريمة ، تقريعا لكفار مكة.
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان ما يلي :
1 - التشبيه التمثيلي [ كذلك نقص عليك ] وهو تشبيه مرسل مجمل .
2 - الاستعارة اللطيفة [ وساء لهم يوم القيامة حملا ] شبه (الوزر) بالحمل الثقيل ، الذي يثقل ظهر حامله ، بطريق الاستعارة التصريحية .
3 - الكناية [ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ] كناية عن أمر الدنيا وأمر الآخرة .
4 - الطباق بين [ أعمى . . وبصيرا ] .
5 - التشبيه التمثيلي [ زهرة الحياة الدنيا ] مثل لنعم الدنيا بالزهر البهيج الفاتن ، الذي ينعش النفس ، لأن الزهر له منظر حسن ، ثم يذبل ويضمحل ، وكذلك نعيم الدنيا .
6 - الوعيد والتهديد [ فتربصوا ] .
7 - جناس الاشتقاق [ أرسلت إلينا رسولا ] .
8 - السجع اللطيف غير المتكلف مثل [ ظلما ، هضما ، علما ] ومثل [ تشقى ، تعرى ، ترضى ] الخ ...
لطيفة :
قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة يسمى (قطع النظير عن النظير) ، وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بينهما من التناسب ، ولو قرن كلا بشكله ، لتوهم ان المعدودات نعمة واحدة ، على ان في الآية سرا آخر وهو قصد تناسب الفواصل ، ولو قرن الظمأ بالجوع ، لانتثر سلك رءوس الآي .
فائدة :
قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال : [ عشرا ] او [ يوما ] او [ ساعة ] حقيقة اختلافهم في مدة اللبث ، ولا الشك في تعيينه ، بل المراد انه لسرعة زواله ، عبر عن قلته بما ذكر ، فتفنن في الحكاية وأتى في كل مقام بما يليق به .